خالد جميل محمد
المزاحمة لغةً واصطلاحاً
تعرّف المعاجم اللغوية المُزَاحَمَة بأنها تعني المُضَايَقَة والمُنَافَسَة. وهي من الفعل زاحَمَ يزاحم ، زِحاماً ومُزاحَمةً، فهو مُزاحِم، والمفعول مُزاحَم. وزاحَمَ غَرِيمَهُ: نافَسَهُ، جارَاهُ، ضايَقَهُ. زاحم فلانٌ فلاناً: زحَمه ودفعه في مكان ضيِّق أو مكتظّ. يُقال: زَحَمَهُ زِحاماً: إذا انْضَمَّ بعضه إلى بعضٍ بِشِدَّةٍ، ومنه الزَّحْمَةُ، وهي: التَّجَمُّعُ والاحْتِشادُ والامْتِلاءُ. ومِن مَعانِيها أيضاً: المُقارَبَةُ، والمُنافَسَةُ، والمُخالَطَةُ، وتأْتي بِمعنى المُدافَعَةِ عَلَى مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيُقَال: زَحَمْتُهُ زَحْماً: دَفَعْتُهُ وَضَايَقْتُهُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَزَحَمَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً: تَدَافَعُوا.
المزاحمة اللغوية، هنا، اصطلاح إجرائي خاصّ بسياق هذه الدراسة، ولا يكاد المعنى الاصطلاحي للمزاحمة اللغوية يخرج عن إطار المعنى اللغوي في الدلالة على المُدافَعة والمضايقة والمجاراة، حيث يدل تركيب (المزاحمة اللغوية) على تدافع نظاميين لغويين، يُراد لأحدهما أن يحلَّ محلَّ الآخَر، في أثناء الاستخدام (الكلام أو الكتابة)، مع الإشارة هنا إلى الفرق بين معنى المزاحمة اللغوية ومعنى كل من المزاحمة اللهجية، والازدواجية اللغوية، والثنائية اللغوية، والمنافسة اللغوية، والمفاضلة بين اللغات، والأمن اللغوي، والاقتراض اللغوي، حيث تكون المزاحمة ضرباً من الرَّطانة والسُّقم والتحريف واللحن والخروج عن خصوصية اللغة الأصلية التي يتحدث بها الشخص.
المزاحمة اللغوية
تتمثل المزاحمة في أنْ يدفع نظامٌ لغويٌّ نظاماً لغويّاً آخَر، قريباً منه أو بعيداً عنه، وقد يكون ذلك النظامُ اللغويُّ لغةً بحدِّ ذاتها أو لهجةً أو أكثرَ من لهجةٍ ضمن لغة واحدة. وعادة لا تكون المدافعة كُلّيّة مُطلَقةً، بل تكاد تقتصر على مفرداتٍ أو جُمل أو عبارات أو صيغ لغوية تعبيرية أو أسلوبية يجري إقحامها من نظام لغوي دخيلٍ، يمكن تسميتُه هنا بالنظام اللغوي المزاحِم (بكسر الحاء)، في سلسلة نظام لغويٍّ آخر، يمكن تسميته هنا بالنظام اللغوي المستهدَف (بفتح الدال)، على مستوى اللغة أو الكلام أو الكتابة، أو على مستوى المعجم اللغوي في معاجم اللغةِ ومعاجم أذهان أفراد الجماعة اللغوية، قليلةً كانت أم كثيرةً، ويتحقق ذلك الإقحام عَمْداً حيناً، وسهواً أحياناً أُخرى، أو قد يكون الإقحام قَسراً لحاجة إلى الاستعانة بالنظام اللغوي الدخيل/ المزاحِم لمَلءِ فراغٍ لغوي في النظام اللغوي المستقبِل / المستهدَف.
في المزاحمة اللغوية، لا يكون ثَمَّةَ جَمْعٌ كاملٌ بين نظامين لغويين أو تفضيلُ نظام على آخرَ، بل تكون المزاحمة بأن يتخلل الكلامَ أو الكتابةَ، مفردةٌ أو تعبيرٌ أو صيغةٌ ليست من أصل اللغة المَعنِيَّةِ/ المستهدَفة التي يكون بها سياق الكلام وتكون بها منظومته وأنساقه، بل تمتلك تلك اللغةُ مفردةً أو تعبيراً أو صيغةً مناسبة، ولا تفتقر إليها، لكنَّ فِعلَ المزاحمةِ يَفرِض على اللغة المستهدَفة وجودَ المفردةِ الدخيلةِ أو التعبيرِ الدخيلِ/ المُزاحِم أو الصيغةِ الدخيلةِ/ المُزاحِمة، في سياقٍ يُمكن الاحتراز من ذلك الإلزام عند توافر الإرادة وشروطِ إجادةِ استخدام اللغة استخداماً يتمثل فيه الحرص على سلامتها في مختلف مستوياتها الصوتية، الصرفية، النحْوية/ التركيبية، الدَّلالية، المعجمية والثقافية.
إنَّ تواتر المزاحَمة في كثير من اللغات المختلفة أو لهجاتِ لغة معيَّنة، مضى بها نحو ميادينَ يُمكن أن يقال عنها، إنها تعاني ظاهرة لغوية تشدّ الانتباه إليها، وتستدعي البحث والتقصيَ والتحرّيَ والمعالجةَ، وهذه العمليات من ضمن الوظائف التي يتوجب أن تؤديها المؤسساتُ العلميةُ، الإعلاميةُ، التربوية، التعليمية والأكاديميةُ، ومراكزُ الأبحاثِ والدراساتِ العلميةِ والأدبيةِ واللغويةِ، والجهاتُ العاملةُ في مجالاتِ التأليفِ المعجميِّ وعلم المعاجم، وغيرُها.
تطرأ المزاحَمة على النسق اللغوي المستهدَف، بصفته ترتيباً قائماً على نظام متكاملٍ، يكمل بعضُه بعضاً، وتتشارك وحداتُه اللغوية والدَّلالية في انتظام واحدٍ وبنية واحدة، ترتبط عناصرها بعضُها مع بعضٍ، ضمن شبكة من العلاقات اللغوية التي تستوجب خصوصيةُ كلِّ لغةِ الحفاظَ على سلامتها ودقَّتها وفقَ وحدات تلك اللغة وقواعدها وأصولها، صوناً لسلامة الرسالة اللغوية، وحمايتها من الانزلاق إلى الانصهار اللغوي، كما هي الحال في اللغتين التركية والفارسية أمام اللغة العربية التي نجحت، بنسبة كبيرة وملحوظة، في صهر تَيْنِك اللغتين في بوتقتها، وإخضاعهما للعربية إخضاعاً لا يخفى على أيِّ نظرة علمية موضوعية تُنجِزُ مقاربةً علمية بينهما وبين اللغة العربية التي انتصرت في مواجهتها سياساتِ التتريك والتفريس.
أمّا ما تواجهه اللغة العربية من مزاحماتٍ لغويةٍ، فإنها تكاد تكون محاولاتٍ لم تَرتقِ إلى مستوى النجاح، لكنّ صمود اللغة العربية أيضاً، يكاد يتراجع أمام تفاخر كثير من مستخدميها بتطعيم لغتهم وكلامهم وكتاباتهم بمفردات أجنبية لا تفتقر العربية إلى مثيلاتها ومرادفاتها، ولا إلى ما هي أشدّ دلالة من تلك الوافدة/ الدخيلة/ المزاحِمة، خاصة في بعض اللهجات العامّية (اللبنانية مثلاً) التي يتباهى مستخدموها بالمفردات الأجنبية التي يتوسّلونها في كلامهم وتعابيرهم، لكن الشعور بالنقص أمام الآخَر أو التبعية له، في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، العسكرية وغيرها، يمتد أحياناً إلى شعور بالنقص أمامه أو التبعية له في اللغة أيضاً، وهو شعور غيرُ سَويٍّ، ولا يعكس شخصية سويَّةً أيضاً، لأن ما تمتلكه اللغةُ العربيةُ الفصحى أو لهجاتُها العامّيةُ/ العامِّيات من مفرداتٍ وغنىً معجميٍّ وصَرفيٍّ وتركيبي ودلالي وتعبيري وأسلوبيٍّ، لا يقلّ قوةً وتماسكاً وإبداعاً وبلاغةً عمّا تمتلكه اللغاتُ التي تُستخدَم سَهواً أو عَمداً في مزاحمتها، وهنا النقص ليس في اللغة العربية نفسِها بقدر ما هو نقصٌ يعانيه من يمارس المزاحَمة بحقِّها.
حين تغدو المزاحَمة ظاهرة أو تكاد أن تكون ظاهرةً، فإنها بذلك تشكّل خطراً يهدد حاضرَ اللغةِ ومستقبَلها، لأن المزاحَمة في إطارها الواسعِ، هي ضربٌ من عملية صَهْرٍ تطالُ اللغة المستهدَفة، خدمةً للُّغة/ اللُّغات المزاحِمة، وبذلك ينتقل الشعور بالنقص من جيل إلى جيل، يتزامن معه انتقال التباهي باللغات الأجنبية على حساب اللغاتِ الأمِّ، ويتسلَّم الخَلَفُ سلوكَ المزاحَمة من سَلَفِه، دون أن تنشط المؤسسات المعنيَّة والمسؤولة لدرء هذا الخطر ومعالجته معاجلة علمية مناسبة، تميِّز بين الجانب الإيجابي للمزاحمة وجانبها السلبي المدمِّر، حيث يمكن أن تكون المزاحمة الإيجابية قناةً لإمداد اللغة الأمِّ بما هو جديد من كلام، مفردات، صِيَغ، تعابير، أساليب ومستجدات تُغْني اللغة المستهدَفة دون أن تحتلَّها لتحلَّ محلَّها في أذهان أهلها.
اللغة الكوردية في مواجهة المزاحَمة
ما قيل أعلاه عن اللغة العربية وقوّتها وغِناها وصمودها أمام عمليات المزاحَمة، وما يهدد العربيةَ من تلك العمليات، يمكن أن يقال عن اللغة الكوردية أيضاً، تلك اللغة التي حافظت على أصالتها ونقائها وقوتها وتماسكها وترابطها، في مختلف المستويات اللغوية، حيث يتباهى كثير من مستخدمي اللغة الكوردية، تكلُّماً وكتابةً، بكثرة إقحامهم مفرداتٍ أجنبيةً من اللغات الأخرى (العربية، التركية، الفارسية، الإنكليزية والفرنسية..)، ظنّاً منهم أن ذلك الإقحام يمكن أن ينجح في تجسيد سعيهم إلى التعالي على الكورد ولغتهم الأمّ، أو إلى التظاهر أمام الكورد بأنهم يجيدون لغاتٍ لا ترتقي اللغةُ الكورديةُ إلى مستواها، بل تعاني الكورديةُ أمام تلك اللغات المزاحِمةِ وجودَ فَجوةٍ معجميةٍ هائلة، يدَّعي أولئك بسلوكهم هذا أن اللغة الكوردية لا تكفيهم لأن يعبِّروا عمّا يريدون، فيتوسَّلون تلك اللغات لملء تلك الفجوة، وهذا السلوك، من الناحية العلمية، هو محض ادّعاء يَعكِسُ فَقرَهم اللغويَّ والمعجميَّ والتعبيريَّ والأسلوبيَّ، لا فقرَ اللغة الكوردية، حيث لا توجد لغة فقيرة وأُخرى غنية، إلّا في أذهان المتحمسين لممارسة الاستخفاف والهيمنة والطغيان بحق اللغات المستهدَفة وأهلها الذين تواضعوا واتفقوا ضمناً على لغتهم بالصورة التي رأوها مناسبة لأذهانهم وبيئاتهم وحياتهم وموجوداتها.
تتسم اللغة الكوردية بقوتها وصمودها في وجه سياسات التتريك والتفريس والتعريب الممنهجة والمتواصلة على امتداد قرون، سياساتٍ لازمَتْها أحياناً ممارساتٌ ميدانية اتسمت بالترهيب والتعنيف والإنكار والإقصاء غالباً، إلا أن هذه اللغة لا تزال تحتفظ بخصائصها وصفاتها وتمايز وحداتها وأصواتها اللغوية وأبنيتها الصرفية والنحوية، فضلاً عن الغنى المعجمي والدَّلالي والأدبي والإبداعي، غنىً تتمثل فيه سَعة هذه اللغة وخصوصيتها واستمراريتها. لكنَّ اللغة الكوردية، في الاستخدام اليومي وفي الكتابات وفي الإعلام، لم تسلم كثيراً من عمليات المزاحمة الخَطِرة التي لا تزال مستمرة ولا تزال تجدُ من يدافع عنها وينافحُ بحججٍ وذرائع لا يقبلها الذوق العلمي والموضوعي، بل يتباهى أنصار المزاحمة بتطعيم لغتهم الكوردية بمفردات وتعابير لا تحمل روح هذه اللغة، ولا هي من أصول هذه اللغة ولا تليق بحاضرها ولا تخدم إلا أعداءها، ولا تتوافق مع أبنيتها.
هذه الدعوة إلى مواجهة خطر المزاحمة المهدِّدةِ للُّغة الكوردية، لا يراد منه أن تكون هذه اللغة منغلقةً على نفسها، مكتفية بذاتها، منطويةً لا تقبل التبادل والتثاقف، بل يراد منها ألا تتحول عملية الاقتراض اللغوي، وهي عملية مباحة لكل اللغات، إلى عملياتِ مزاحَمةٍ لُغَويةٍ تهدف إلى ترقيع اللغة بصورة تدعو إلى التهكم والسخرية من كثرة المبالغة في تلك الممارسة المستهجنة عند ذوي الذوق اللغوي السليم، حيث يباح لأي لغة أن تقترض من اللغات الأُخرى مفرداتٍ تحتاجها لملء فجوة/ فجوات معجمية تدفعها إلى ذلك الاقتراض لتأدية غرضٍ لغوي دَلاليٍّ لا يمكن القفز عليه أو تجاهله أو التغافل عنه، لكنَّ تجاوز الحدّ في الاقتراض اللغوي غيرِ السليمِ يؤدي إلى المزاحمة التي تشكل ذلك التهديد. أما إن كانت ثمة مفردات ترسَّخ حضورها في نظام اللغة الكوردية وباتت جزءاً أو كالجزء منها، فلا حرج في استخدامها، استناداً إلى مبدأ ضرورة الانفتاحِ على اللغات الأخرى، وجوازِ الاقتراضِ منها عند الحاجة، واعتمادِ ما جرى تثبيته وترسيخه بمرور الأزمنة، ونبذِ الاقتراضِ ورفضِه عند عدم الحاجة، أي عند توافر البدائل الكوردية الأصلية ومرادفاتها السليمة.
من أمثلة المزاحمة اللغوية في اللغة الكوردية
لا يسع المجال هنا لحصر أو إحصاء الأمثلة الكثيرة، لكنْ يمكن التدليل على هذا الخطر من خلال بعض الأمثلة، حيث يشتكي كثيرون من استفحال ظاهرة المزاحمة التي باتت غزارتها مألوفةً، خاصة أن كثيراً من المفردات العربية دخلت اللغة العثمانية/ التركية، ومنها تسللت تلك المفردات إلى اللغة الكوردية، ونجحت سياسة التتريك في إقصاء المفردات الكوردية الأصلية وتغييبها لتحل محلها المفردات العثمانية/ التركية أو العربية الدخيلة إلى التركية، ومن ثَمَّ وجدت لها مكاناً في المعجم الكوردي وفي ذهن الإنسان الكوردي، ويرددها الإعلام الكوردي وكثير من الكتاب الكورد دون حرج ودون إدراك لخطورة هذا التهجين الخَطِر.
تعرف اللغة الكوردية آلاف المفردات الكوردية الأصلية التي تعمل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وكتب كثير من المؤلفين على إقصائها وتغييبها سهواً أو عمداً، لإثبات انفتاحهم على اللغات المزاحِمة، أو إثبات كفاءاتهم اللغوية المتعددة وازدواجية اللغة وثنائيتها وغير ذلك مما ينجم عنه إلحاق الإساءة والضرر باللغة الكوردية وسلامتها وغناها واستغنائها عن التوسل بمفردات اللغات الأخرى، إلا في إطار الاقتراض اللغوي المباح علمياً عند الضرورة.
في هذا السياق يمكن الاكتفاء ببعض الأمثلة القريبة من الاستخدام اليومي، خاصة في الإعلام الكوردي، وفي شبكات التواصل الاجتماعي، ذلك أن في اللغة الكوردية كلمة (Kuştin) التي تقابلها في العربية كلمة (القَتْل)، وهي من أكثر المفردات سهولةً وفهماً ودلالة وتعبيراً عن هذا المعنى، إلا أن كثيرين يفضلون عليها وعلى اشتقاقاتها كلمة (قتل) واشتقاقاتها العربية، فبدلاً من أن يقال عن (القاتل) (Kujer) يقال (Qatil)، وبدلاً من أن يقال (Kuştin) يقال (Qetilkirin)، وبدلاً من أن يقال (Komkujî) يقال (Qetluam)أي (القتل العامّ).
من ذلك أيضاً كلمة (Dermankirin) التي تقابلها في العربية (المداواة، التداوي)، لكنّ بعضهم يشعر بالفخر عندما يُقصي المفردة الكوردية ويتبنى المفردة العربية فيقول (Tedawîkirin) أو (Ilackirin) من (العلاج، المعالجة)!. ولا يخفى على المتمعن أنها من العربية، وقد دخلت اللغة العثمانية/ التركية، ثم جيء بها لتحل محلَّ المفردة الكوردية الأصلية.
تعرف الكوردية أيضاً أكثر من كلمة تدل على (الحصار)، ومنها (Dorpêç, gemaro, abloqe)، لكن الناس يسمعون كلمة (Hîsar) في الإعلام الكوردي أكثر من تلك الكلمات الأصلية(!). ومثلها كلمة (Çek) التي تقابلها في العربية (السلاح)، وكثيراً ما يحلّ محل الكلمة الكوردية الأصلية، فبدلاً من أن يقال (Çek) يقال (Silah)!. وبدلاً من أن يقال لــ(الجيش) (Artêş) أو (Supa) يقال (Cêş)، وبدلاً من أن يقال لــ(المعارَضة) (Dijberî) يقال (Muxalefet) وهي من كلمة (المخالفة) العربية. وبدلاً من (Radestkirin) التي تقابلها في العربية (التسليم) يقال (Selimandin)!، وفي التركيب بجمع هذه المفردات يكون التعبير على النحو التالي: (Muxalefetê silehên xwe selimandin cêşê)! وهو تعبير مضحكٌ وغريب جداً عن سلامة اللغة الكوردية التي يمكن أن يقال فيها: (Dijberiyê çekên xwe radestî artêşê kirin).
ومن أمثلة الخطر في المزاحمة، أن يقال (Ev mun’etefekî tarîxî ye) تعبيراً عن قولهم السليم (Ev werçerxaneke dîrokî ye)، حيث تدل كلمة (werçerxan) على (المنعطف)، وتدل كلمة (Dîrok)على (التاريخ). ومثلها (Elaqetmedar) التي هي في الأصل العربي بمعنى (ذو/ ذات علاقة)، ولا تخلو الكوردية من مفردة مناسبة كقولهم (Pêwendîdar, peywendîdar). وكذلك توجد في الكوردية كلمتا (Mikurhatin, danpêdan) الأصليتان، بمعنى (الاعتراف)، لكن ما هي دارجة أكثر، كلمة (Îtîraf)! وكأن تَيْنِكَ الكلمتين الكورديتين قاصرتان عن تأدية المعنى المراد، وهو ادّعاء باطل. ومثلها كلمة (Destpêşxerî) التي تعني (المبادرة) في اللغة العربية، لكن أنصار المزاحمة، وبحجة تسهيل اللغة وإخراجها من حالتها المعجمية المتشددة والعصية على الفهم(!)، يتوسلون المفردة العربية أو الأجنبية ويفضلونها على المفردة الكوردية، فيستخدمون (Mubadere) أو (Initiative, Înisyatîv)! وكأن هذه البدائل أكثر سهولة من الكوردية، وهو ادّعاء بعيد عن السلامة اللغوية والمنطق والإنصاف.
أحياناً تبلغ المزاحمة مستويات تدعو إلى الاستغراب والضحك، ومن ذلك أن في الكوردية مفردات أصلية كالتالي (Çarçove, pêşhate, serperiştî, encumen, leşkerî / serbazî)، تقابلها في العربية، بالترتيب (الإطار، المستجدات، الإشراف، المجلس، العسكري)، لكنها تستخدم أحياناً بصورة غريبة كأن يقال: (Di îtarê musteciddatan de, Meclisa Eskerî işraf li ser mubadereyê kir)! في دلالة على ما يلي: (في إطار المستجدات أشرف المجلس العسكري على المبادرة)، والصواب هو أن يقال مثلاً: (Di çarçoveya pêşhateyan de, Encumena Leşkerî serperiştiya destpêşxeriyê kir.).
وتعرف اللغة الكوردية كلمتي (Gef, hereşe) بمعنى (التهديد)، لكن ما تستخدم كثيراً كلمة (Tehdîd) وهي نفسها الكلمة العربية بأحرف كوردية(!). ومثلها كلمة (Metirsî) التي تعني (الخَطَر)، حيث يستخدمها كثيرون كالتالي (Xeter). ومثلها (Ziyan) التي تعني (الضرر، الأذى، الإساءة)، حيث تستخدم كلمة (Zerer)! وبدلاً من كلمة (Armanc) الكوردية الأصلية، التي تعني (الهدف)، تُستخدم كلمة (Hedef) وكأن الكلمة الكوردية لا تَفِي بالغرض والمعنى المراد.
العوامل التي تؤدي إلى المزاحمة اللغوية
تقف وراء ظاهرة المزاحمة اللغوية في اللغات كلها عامة، وفي اللغة الكوردية خاصة، عوامل عديدة، منها، عوامل نفسية وأخرى اجتماعية، وتربوية، واقتصادية، وسياسية، حيث تحدث المزاحمة اللغوية بين لغتين أو أكثر نتيجة عوامل كثيرة، منها نقصُ الكفاية اللغوية عند من يمارس المزاحمة اللغوية، حيث يعجز عن التعبير بلغةٍ سليمة (فصيحة أو عامّيّة)، فيُقحم مفرداتٍ من لغة أو لغات أجنبية، ليؤدي رسالته اللغوية، مضطربةً يشوبها الخلل والرَّطانة.
قد يُضطرّ القائم بعملية المزاحمة اللغوية إلى ممارستها، تماشياً مع حالة طارئة بسبب صعوبة توصيل الرسالة اللغوية لمستقبِل أجنبيٍّ، فيطعِّم المتحدث كلامه بمفردات من اللغة التي يفهمها المتلقي، وهذه حالة عَرَضيَّة، تطرأ في مواقف محددة وقصيرة الأمد، ولا تشكل ظاهرةً يُخشى من عواقبها. وقد يكون الاكتسابُ اللغويُّ غيرُ السَّويِّ، ضمن الأسرة أو البيئة، أحدَ العوامل التي تتسبب في المزاحمة اللغوية، حيث ينشأ الشخص في بيئة أسرية أو اجتماعية تستخدم نمطاً من الرطانة، لأسباب خارجة عن إرادته، فلا يتحمل ذلك الشخص مسؤولية تلك الممارسة الخاطئة للغة، حيث تشفع له ظروف بيئته، وتكون المزاحمة اللغوية عنده دون إرادته، ومفروضة عليه من محيطه.
أما مَن لا تشفع له أي ذريعة، فهو من يتعمَّد المزاحمة اللغوية، وهو قادر على تجنّبها، لادّعاء امتلاكه مهاراتٍ لغويةً أجنبيةً، والتباهي بلغات الآخرين التي يخلطها مع لغته الأمِّ، بل يفضل الدخيل على الأصلي، من منطلق الدونية التي يشعر بها تجاه تلك اللغات التي يستسلم لها، في وقتٍ يكون بإمكانه أن يتحدث بلغةٍ سليمة لا تشوبها شائبة. وقد يكون التقليد أحد تلك العوامل، حيث يحلو لبعض الناس أن يقلدوا الذين يحرّفون ويصحّفون لغتهم الأمّ، عن طريق المزاحمة اللغوية، لإثبات (تَفَوّقهم اللغويّ) على أهل اللغة التي يتحدث بها بتلك الرَّطانة التي يكون التخلي عنها أفضل من تبنّيها وممارستها تجسيداً لحالة مرَضية ذاتِ أبعادٍ تهدد اللغة وأهلها، وتعكِس استخفاف القائم بها باللغة المستهدَفة.
===========