عندما هزمتني دفاتري القديمة

مروة بريم

 

على سبيل التنظيم، والتخلّص من الأوراق المكدسة، وبعض الكراريس الهزيلة القديمة، سحبتُ دفترًا أحمر الغلاف، ربما كان هدية من إحدى الصديقات. أمسكتُه بحذر شديد،  فأنا أرتاب جدًا في اللون الأحمر، وأخضعته لفن المسافة، مذ رأيته يرفرف خلف ليونيد بريجنيف، ويبالغ في إظهار حاجبيه الوطفاوين، وعينيه الغامضتين كحصون المغول.

أمسكتُ أوراقه ببن السبابة والإبهام، وأطلقتها بسرعة كما تفعل آلة إحصاء الأوراق النقدية في البنوك مع رزم المال، وعاودتُ الكرّة لكن برِفقٍ وهدوء.

تنفّستْ بعض الكلمات، وأطلقتْ زفيرًا دافئًا في وجهي، استسلمتُ للنّص وباعدتُ بين الصفحتين الكبيرتين، ذكرتني خطوطه الشّاقولية والأفقية الغزيرة بدفاتر الرٍياضيات، التي قضيتُ وقتًا مربكًا معها، ولم اُوفق في تضميد كسور الجبر في مربعاتها الصغيرة.

حسنًا يبدو أنّ النّص، كتبته منذ وقت بعيد، استحضرتُ طقوس الكتابة ليلتها، أذكر أنني أطفأتُ الأضواء كلها، وأوقدتُ شمعتين، وأحرقتُ حفنة من ثمار الحَرمل الصغيرة المستديرة، لأرسم بحيرة هوبكا Hopka، التي كانت تتعملق من نزوات المطر وطيشه أيام الشّتاء.

تفرسّتُ في أخطائي تلك التي طمرتُها، تحت كدمات الحبر بين السطور، كانت تبدو كتعلق البحر الميت، بالفالق الجيولوجي العظيم على الخريطة، وهذه الهمزة كان يجب أن تُكتب على الألف، كيف مسستُ بكبريائها، وجعلتها تكبو على السّطر، كحصان عجوز خسر رهانه الأخير في الحلبة، ومات دون دفن حيثُ كَبَا!

كل حروف السّين درداء، أسقطتُ أسنانها في عُجالة الكتابة، هناك شمس تتوسَّطُ النَّص، الرَّفش المقلوب على شينها غائبٌ، ابتسمت وقلت في نفسي ربما كان عملاً متعمّدًا، وأردتُ حينها أن تتنفّسَ الشّين المحبوسة في الشَّدة.

 

فيما عدا ذلك، كل شيء كان موغلاً في النَّصاعة و زُرقة بلون البحر، فقط بحيرة هوبكا طاعنة في حمرة التراب، من التهام الغُضار المنزلق من السّفوح، وأنا صغيرة لا أتجاوز الحلفاءَ في طولها، أقفُ على ضفتها الشّرقية،  أرجمُ ماءها المتوحش، بعد أن مضغت زورقي الورقي.

عثرت على نصوص أخرى، خواطر، شذرات، هوامش تتضمن معلومات، وتدوينًا لبعض المناسبات. استعذبتُ ماجلانيتي على شواطئ الورق، امتدت يدي لدفترٍ آخر وآخر، حتى أنني وجدت ورقة مطوية على شكل ظرف بريدي، كُتٍب عليها قسم الفيزياء، فرغ الركن من محتوياته، وارتفع تل الورق أمامي حتى كدت أختفي وراءه.

أسندتُ ظهري للحائط، ابتسمتُ مرة أخرى،  تذكرت صباي عندما رافقتُ والدي رحمه الله، بعد عام من إصابته باحتشاء دماغي شديد، إلى عيادة الدكتور فاهيه سيسريان في عزيزية حلب. وقفتُ مشدوهة في باب غرفة المعاينة، أحاول العثور على الطبيب، كل شيء كان ساكنًا سكون الأوابد الأثرية، أدهشتني الكتب المكدسة على ارتفاع نصف متر فوق الطاولة، يبدو أن سعالي المصطنع بعد طَرقات عدة، اخترق مسامعه وأيقظه من قراءة كتاب، دنوتُ أكثر أصبح في مرمى عينيًّ، رفع رأسه مرحبًا من وراء الكتب، وحرّك نظارته التي كانت على وشك الإنزلاق فوق أرنبة أنفه الحمراء. أنا اليومَ أشبه الدكتور سيسريان، خُلدٌ يلتقط أنفاسه خلف هضبة كتب، حفرَ نفقًا في دفتر، وخرج يحمل على أنفه المدبب بحيرة، وسفحًا أدمن الماءُ قضمه.

استصعبتُ جدًا، فكرة قتل نفسي دفعة واحدة، عبر رمي تلك الكائنات المرصعة بعقيق الوفاء، والتي بقيت معي أكثر من الجميع، وتحمّلت أطوار مزاجي الزئبقي الصّامت. جبُنتُ أمام تلٍ اكتنزته قهريًا وأعدته إلى مكانه،  ليكون المنتصر الأبدي الوحيد عليّ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ . والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ….

إدريس سالم

 

«الغابة السوداء»:

بداية لا بدّ أن نوضّح حقيقة مهمّة لكلّ قارئ، لأدب الروائي السوري، مازن عرفة. فمازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، ولا يكتب الرواية الشعبية أو الثورية، هو لا يكتب الرواية النفسية أو الفلسفية، ولا حتى الرواية التاريخية والوطنية، بل يكتب الرواية الإنسانية، هو يكتب رواية الإنسان، يكتب الإنسان؛ وعن الإنسان. يحاول بأسلوبه –…

المهندس باسل قس نصر الله

 

عيدُ ميلادي الثامنِ والستينَ اقتربَ، وقد تقرؤونَ المقالةَ وهو قد حلَّ أو تجاوزَهُ.

بعد أن انتقلَ أبي مع أمي – في بدايةِ ستينياتِ القرنِ الماضي – إلى مدينةِ اللاذقيَّةِ، أصرَّ أن يُبقينا – أنا وأخي سامر – في حلبَ على أساسِ أنَّهُ سيعودُ إليها بعد ستةِ أشهرٍ، ولا يريدُ أن “يشنططَنا” بتغييرِ…

ياسر بادلي

 

في هذه البلاد…
تنكشف الوجوه على حقيقتها،
تُختبر المحبة، وتُفرَز العلاقات،
فتُعرَف معادن الأقرباء، ويُكشَف صدق الأصدقاء.

الغربة هنا لا تعني الرحيل،
بل تعني الصحوة…
أن ترى من كان قلبه معك، ومن كان ظلًا فقط.
•••
أوربا يضيع الإنسان بين ذاكرته وثقافة لا تشبهه،
يحاول أن ينتمي،
لكن الانتماء دون دفء… لا يُثمر روحًا.
وطنٌ بعيد…
ليس جغرافيًا، بل عاطفيًا،
بعيد عن الأم، عن العائلة، عن الحنين.
•••
أوروبا…
قفصٌ…