فرانتس كافكا: “الحكم”

تنكزار ماريني

 

تُعتبر “الحكم”، التي صدرت في عام 1913، رواية مثيرة للاضطراب وغامضة في نظر كثيرين، تترك القارئ مع مجموعة من الأسئلة المفتوحة وسياقات التفسير. تُحتفل هذه الرواية لرؤاها النفسية العميقة ولعرضها الدقيق لعلاقات السلطة ومشاعر الذنب والقلق الوجودي. يُشيد النقاد بلغة كافكا البصرية القوية وأسلوبه الكتابي الفريد الذي يعرض بوضوح ما هو عبثي ومخيف في الوجود البشري.

المنظور الأدبي

هيكل السرد: تتمتع رواية كافكا بهيكل مشحون بالتوتر، يجذب القارئ مباشرة إلى صراعات الشخصيات الداخلية. من خلال استخدام فقرات قصيرة ومركزة، يتم إنشاء جو كثيف يسمح للقارئ بالتعمق في الأبعاد النفسية للشخصيات.

الرمزية: تعكس الرمزية الغنية في “الحكم” الديناميات المعقدة للعلاقات الأسرية والهياكل الاجتماعية. يناقش الصراع بين الأب والابن مسائل مركزية تتعلق بالسلطة والهوية وعبثية الحياة. يجسد والد جورج بنديمان القيم الأبوية والسلطة الاستبدادية، حيث يُبرز التوقعات الاجتماعية تجاه الرجال، وخاصة الأبناء، من خلال اتهامات عدوانية. العلاقة بينهما مُهيمنة بمشاحنات السلطة، حيث يسيطر الأب على جورج جسديًا وعاطفيًا، مما يُشعره بالاهانة. يصبح الحكم الذي يصدره الأب رمزًا لقرارات السلطة التعسفية، ويعكس الشعور بالعجز الذي يشعر به الكثيرون عند مواجهتهم مثل هذه الأنظمة. كما يمثل أزمة وجودية، حيث يسعى جورج للهروب من الضغط الغير محتمل لسلطة أبيه، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى انتحاره كفعل يائس. لا يعكس هذا الصراع العلاقات الأسرية فقط، بل أيضًا الديناميات الاجتماعية، حيث يمثل الأب القيم التقليدية للمجتمع المتعطش للاستقرار، مما يُظهر كيف تؤثر الهياكل الاستبدادية على حياة الأفراد. ينتقد كافكا المعايير والقيم التي تُجبر الأفراد على التضحية بهويتهم، مما يجعل الأب رمزًا لمجتمع تُفضل فيه السلطة على رفاهية الفرد.

المواضيع الوجودية

تتناول الرواية حياة جورج بنديمان، وهو تاجر شاب يكتب رسالة لصديق له في الخارج، مُفكرًا في حياته. أثناء زيارة والده المريض، يواجه جورج اتهامات عدوانية، مما يؤدي إلى حكم غريب يقضي بإدانته بالموت. تؤدي هذه الأحداث إلى صراعات داخلية، مما culminates إلى انتحار جورج المأساوي. يُظهر جورج على أنه غير واثق ومرتبك، عالقًا بين تأثير والده الاستبدادي، الذي يُجسد التقاليد الأبوية، ورغباته الخاصة. يمارس الأب السيطرة، مما يعكس صراع جورج من أجل الاستقلال والهوية. المواضيع الرئيسية في الرواية تشمل صراع الأب والابن، الذي يرمز إلى النضال من أجل تأكيد الذات، بالإضافة إلى البحث عن الهوية تحت السيطرة الأسرية. يمثل حكم الأب مشاعر الذنب لدى جورج ويعكس عبثية التوقعات المجتمعية.

تعتبر العزلة والاغتراب أيضًا من المواضيع البارزة، حيث يشعر جورج في النهاية بالوحدة، رغم جهوده للامتثال للتوقعات. تُعتبر رواية كافكا بمثابة سلف للوجودية، حيث تتناول العزلة وعبثية الحياة. تُظهر العلاقة بين جورج ووالده جوانب تحليل نفسية حيث يمثل الأب الهو. بالإضافة إلى ذلك، ينتقد كافكا الهياكل الأبوية وقمع الفرد من خلال المعايير الاجتماعية.

المنظور الجمالي

أساليب الأدب: يتميز أسلوب كافكا بوضوحه، ولكنه غالبًا ما يكون بارزًا. تُستخدم عناصر غريبة لتصوير عبثية الواقع، بينما تُولد التحولات المفاجئة والانتقال غير المتوقع من الحياة اليومية إلى ذروة درامية توترًا مكثفًا.

منطق الحلم: تحمل الرواية طابعًا حلميًا يتحدى المنطق التقليدي والهياكل العقلانية. تبدو الأحداث غير عقلانية، مما يجعل القارئ يشعر أنه يغوص في عالم كافكا، حيث تختفي الحدود بين الواقع والوهم.

التناقضات: يلعب عمل كافكا على التناقضات العديدة، مثل بين الواقع والحلم، والحرية والاحتجاز. يتجلى هذا التوتر بشكل خاص في العلاقة بين جورج ووالده، التي تتضمن كل من الجذب والطرد، مما يوضح تعقيد الروابط الأسرية.

المنظور الاجتماعي

هيكل الأسرة: تعكس الرواية الهياكل الأبوية للمجتمع في زمن كافكا. يرمز الصراع بين جورج ووالده إلى مواجهة أساسية مع السلطة والتقاليد المتوارثة التي تعيق حياة الأفراد وتطورهم.

الهوية والمسؤولية: تمثل الصراعات الداخلية لجورج تحديات الفرد الحديث. في مجتمع دائم التغيير، يسعى لاكتشاف هويته وتعريفها. توضح التوقعات المجتمعية والمسؤوليات المفروضة عليه الصراعات والضغوط في زمانه.

انتقاد المعايير الاجتماعية: يُمارس كافكا نقدًا دقيقًا للمعايير والقيم الاجتماعية في “الحكم”. يمكن اعتباره تعليقًا على اغتراب الفرد في العالم الحديث، حيث غالبًا ما تُضحي الرغبات الشخصية بالتوقعات الجماعية.

أسلوب السرد في الرواية

تتميز “الحكم” لكافكا بأسلوب واضح ومحدد، مما يمكّن القارئ من فهم مشاعر الشخصيات. تضفي الرمزية والاستعارات عمقًا على الرواية، خاصة في العلاقة بين جورج ووالده، الذي يُمثل الهياكل السلطوية. يُنتج الأسلوب دراماتيكية وتوترًا من خلال إنشاء جمل مفاجئة وتقلبات غير متوقعة توضح الاضطرابات النفسية لجورج. تُعرض الحالات النفسية بشكل واضح، مما يجذب القارئ إلى عالم أفكاره. تُخلق العناصر الحلمية والعبثية جوًا كافكاويًا حيث تعزز التكرارات العواطف وتُبرز الحياة اليومية التي توضح عبثية الموقف.

ملخص

تعد “الحكم” لكافكا رواية متعددة الأبعاد، تتناول مجموعة من المواضيع الأدبية والجمالية والاجتماعية. توفر الشخصيات المعقدة والصراعات الأساسية مساحة غنية لتفسيرات عميقة وتفاعل شامل مع الوجود البشري. تجعل تقنية السرد الماكرة وكثافة الموضوعات النفسية والاجتماعية هذا العمل موضوع دراسة خالد في الأدب

ماهي الكافكائية؟**

  • باختصار، يصف مصطلح “كافكاوي” جوًا من الارتباك والعبث والعجز، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأسلوب كافكا السردي ومواضيعه. وقد جعلت هذه الخصائص المصطلح شائعًا في سياقات متنوعة لوصف مواقف أدبية ويومية متشابهة.

ميزات المفهوم الكافكاوي:

العبثية •

  • الاغتراب
  • البيروقراطية وهياكل السلطة
  • المواضيع الوجودية
  • الخصائص الشبيهة بالحلم
  • التكرار والاختلافات

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حيدر عمر

تمهيد.

الأدب المقارن منهج يعنى بدراسة الآداب بغية اكتشاف أوجه التشابه والتأثيرات المتبادلة بينها، ويكون ذلك بدراسة نصوص أدبية، كالقصة أو الرواية أو المقالة أو الشعر، تنتمي إلى شعبين ولغتين أو أكثر، و تخضع لمقتضيات اللغة التي كُتبت بها. ترى سوزان باسنيت أن أبسط تعريف لمصطلح الأدب المقارن هو أنه “يعنى بدراسة نصوص عبر ثقافات…

نابلس، فلسطين: 2/7/2025

في إصدار ثقافي لافت يثري المكتبة العربية، يطل كتاب:

“Translations About Firas Haj Muhammad (English, Kurdî, Español)”

للكاتب والناقد الفلسطيني فراس حج محمد، ليقدم رؤية عميقة تتجاوز العمل الأدبي إلى التأمل في فعل الترجمة ذاته ودوره الحيوي في بناء الجسور الثقافية والفكرية. يجمع هذا الكتاب بين النصوص الإبداعية المترجمة ومقاربات نقدية حول فعل الترجمة في…

سربند حبيب

صدرت مؤخراً مجموعة شعرية بعنوان «ظلال الحروف المتعبة»، للشاعر الكوردي روني صوفي، ضمن إصدارات دار آفا للنشر، وهي باكورة أعماله الأدبية. تقع المجموعة الشعرية في (108) صفحة من القطع الوسط، و تتوزّع قصائدها ما بين الطول والقِصَر. تعكس صوتاً شعرياً، يسعى للبوح والانعتاق من قيد اللغة المألوفة، عبر توظيف صور شفّافة وأخرى صعبة، تقف…

عبد الجابر حبيب

 

أمّا أنا،

فأنتظرُكِ عندَ مُنحنى الرغبةِ،

حيثُ يتباطأُ الوقتُ

حتّى تكتملَ خطوتُكِ.

 

أفرشُ خُطايَ

في ممرّاتِ عشقِكِ،

أُرتّبُ أنفاسي على إيقاعِ أنفاسِكِ،

وأنتظرُ حقائبَ العودةِ،

لأُمسكَ بقبضتي

بقايا ضوءٍ

انعكسَ على مرآةِ وجهِكِ،

فأحرقَ المسافةَ بيني، وبينَكِ.

 

كلّما تغيبين،

في فراغاتِ العُمرِ،

تتساقطُ المدنُ من خرائطِها،

ويتخبّطُ النهارُ في آخرِ أُمنياتي،

ويرحلُ حُلمي باحثاً عن ظلِّكِ.

 

أُدرِكُ أنّكِ لا تُشبهينَ إلّا نفسَكِ،

وأُدرِكُ أنَّ شَعرَكِ لا يُشبِهُ الليلَ،

وأُدرِكُ أنَّ لكلِّ بدايةٍ…