أمي التي تنتظرنا هناك..

سيماف خالد محمد

في المطبخ كعادتي كل يوم استيقظتُ على فنجان قهوة أُحاول به أن أفتح عينيّ وأمنح نفسي شيئاً من التركيز قبل أن أبدأ بتحضير الغداء.

بينما كنتُ منشغلة بالطبخ أفتح هذا الدرج وذاك، دخلت أختي مايا تحمل لابتوبها جلست أمامي، فتحت الجهاز لتعمل عليه وكأنها أرادت أن تؤنس وحدتي قليلاً وتملأ صمت المطبخ بأحاديث خفيفة.

لم تمضِ دقائق حتى رنّ هاتفها كانت أختي الكبيرة “ليلاف” أمّ لطفلين جميلين: “آريان وآزا”، فرّقتنا دروب الحياة كما حال الكثير، هي تعيش في ألمانيا مع زوجها وأطفالها لكن المسافات لم تنتزعها من تفاصيلنا الصغيرة.

ليلاف لا تزال كما هي لم تتخلَّ عن عادتها أن تُصبح علينا كل صباح، هي أول إشعارٍ أراه على هاتفي حين أفتح عينيّ، حضورها وإن كان عبر شاشة يبقى دافئاً كأنها بيننا.

بدأت ليلاف ومايا حديثاً طويلاً غاصتا فيه حتى نسيَا وجودي، لم أجلس أمام الكاميرا اكتفيت بالعمل بصمت، أراقب الطعام على النار وأصغي إلى ما يقولانه.

كانت كلماتهما تتنقّل بين مواضيع كثيرة، لكن فجأة توقّفت أذناي عند حديثهما عن الموت ذلك الاسم الثقيل الذي يكفي مجرد ذكره ليجعل قلبك ينقبض.

قالت ليلاف بصوت يحمل ثِقل التجربة: “قبل رحيل ماما، كنا نخاف من الموت ونظنه بعيداً عنّا، لكن بعد رحيلها صار الموت يرافقنا كل يوم لم نعد نخشاه كما كنّا من قبل، بل صرنا نراه جسراً نحوها، دائماً أفكّر أنه حين يأتي يومي وأرحل من هذه الحياة، ستكون ماما في انتظاري تبتسم لي وتفتح ذراعيها لتعانقني، أنا أمّ الآن وأعرف كيف تشعر الأمهات وأؤمن أنّ ماما رحلت قبلنا لأنها لم تحتمل أن نرحل نحن قبلها إلى المجهول، رحيلها كسر الحاجز بيننا وبين فكرة الموت جعلنا ننظر إليه بعيون مختلفة.”

كلماتها تركت أثراً في داخلي ظللت واقفة أمام القدر يغلي لكن فكري وقلبي كان أكثر ما كان يغلي قي تلك اللحظة، كيف يمكن للموت هذا الفراق القاسي الذي هزّنا جميعاً يوم غابت ماما، أن يتحوّل بمرور الوقت إلى أمرٍ مألوف؟ كيف يصبح الحزن نافذة نتطلّع منها إلى رجاء اللقاء، بدل أن يكون باباً مسدوداً في وجه الحياة؟

شعرت حينها أنّنا نتعلّم من فقد أحبابنا دروساً لم نكن نتخيّلها نتعلّم أن حضورهم لا ينقطع برحيلهم، بل يستمر في أصواتنا، عاداتنا في تفاصيل يومنا البسيط.

أمي لم تتركنا هي فقط انتقلت إلى مكانٍ آخر تنتظرنا فيه بصبر الأمهات، وربما لهذا السبب تحديداً لم يعد الموت مخيفاً كما كان، بل صار وعداً غامضاً بلقاء نتمناه.

وبينما أغلقتُ الموقد وأطفأت النار تحت الغداء، أدركت أن الموت لا يزورنا مرة واحدة حين يأخذ من نُحب، بل يظلّ يسير بجانبنا كل يوم. لكنه بقدر ما يُوجعنا يمنحنا يقيناً آخر: أنّ هناك من ينتظرنا على الجانب الآخر بابتسامة، وأننا مهما افترقنا سنلتقي من جديد.

 

٢٧-٩-٢٠٢٥

هولير

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نص: حفيظ عبدالرحمن

ترجمة عن الكردية: فواز عبدي

 

جاري الافتراضي كئيب

جاري الافتراضي حزين

جاري الافتراضي يحلب اليأس

يحتسي الوحدة

يبيع الحِكَمَ المكوية برعشة الآلام

بثمن بخس.

 

من نافذة صفحتي

أرى

مكتبه

صالونه

غرفة نومه

مطبخه، شرفته، حديقته

ومقبرة عائلته.

من خلال خربشات أسطره

أقرأ طنين النحل

في أعشاش عقله.

 

جاري الافتراضي

يكتب على جدار صفحته

كلمات مثقوبة بالألم

محفورة بمسامير التنهدات

يمسحها

ثم يعيد…

مروة بريم
لم يسبق لي قطُّ أنْ رأيتُ الجزيرة، تكوَّنت صورتها في ذهني، من قُصاصات مطبوعة في المناهج المدرسية، وما كانت تتداوله وسائل الإعلام. عَلِقت في ذهني صورة سيدات باسقات كأشجار الحَور، يأوينَ إلى المواقد في الأشتية القارسة، تشتبكُ القصصُ المحلّقة من حناجرهنَّ، مع صنانير الصّوف وهنَّ يحكنَ مفارش أنيقة، وفي الصَّيف يتحوَّلن لمقاتلات…

شيرين اوسي

عندما تكون في الشارع وتحمل في احشاءها طفلها الاول

تتحدث عنه كأنها تتحدث عن شخص بالغ

عن ملاك تتحسسه كل ثانية وتبتسم

يطفئ نور عينها وهي تتمنى ضمه

تقضي في حادثة اطلاق نار

رصاصة طائشة نتيجة الفوضى التي تعم المدينة تنهي الحلم

تموت وهي تحضن طفلها في احشاءها

ام مع وقف التنفيذ

تتحسس بطنها

ثم تتوسل لطبيب المعالج

ساعدني لااريد فقد كامل…

إبراهيم محمود

البحث عن أول السطر

السرد حركة ودالة حركة، لكنها حركة تنفي نفسها في لعبة الكتابة، إن أريدَ لها أن تكون لسانَ حال نصّ أدبي، ليكون هناك شعور عميق، شعور موصول بموضوعه، بأن الذي يتشكل به كلاماً ليس كأي كلام، بالنسبة للمتكلم أو الكاتب، لغة ليست كهذي التي نتحدث أو نكتب بها، لتكتسب قيمة تؤهلها لأن…