حين كانت الدرباسية تضيء بالسينما

ماهين شيخاني

لم تكن الدرباسية يوماً مدينة كبيرة بالمعنى الجغرافي، لكنها كانت — كما يصفها المسنين — “مدينة من الضوء والحنين”.

في نهايات الخمسينيات، حين كانت الطرق ترابية، والمولدات تُدار باليد، وعلب البوظة المعدنية تصدر رنيناً في أزقة السوق، وُلدت أول دار سينما في المدينة… سينما ( سلوى ) ل جليل قره زيوان.

كانت تقع مقابل المطحنة ومعمل البوظة الذي يملكه جليل نفسه. بناها بحلم يشبه المغامرة، لأن فكرة السينما آنذاك لم تكن مألوفة إلا في المدن الكبرى كحلب أو العاصمة . كان الناس يتجمهرون أمام المدخل، ينظرون إلى اللوحة الخشبية التي تحمل أفيش الفيلم، مرسومة بالألوان الزيتية، ويقرؤون أسماء الممثلين كما لو كانت تعاويذ من عالم آخر: فريد شوقي، عبد الحليم، هند رستم…

وكان الأطفال يتبادلون التذاكر كما لو كانت مفاتيح إلى الحلم.

ومع مطلع الستينيات، افتتحت سينما فؤاد ثم سينما سليم سبتي، ولاحقًا سينما الزهراء الصيفية. كانت تعرض فيلماً واحدًا كل مساء، في الهواء الطلق، تحت قبة السماء التي كانت تُنيرها نجوم الجزيرة، بينما تدوي أصوات المولدات وصرير المقاعد الخشبية.

أما السينما الشتوية، التي تميزت بموقعها الجميل في زاوية تقاطع طريق رأس العين مع طريق الحسكة فقد كانت عالماً آخر. صالة كبيرة تنقسم إلى طابقين:

في الأسفل المقاعد الخشبية البسيطة، بخمسين قرشاً،

وفي الأعلى الـ”لوج” الفخم، بكراسٍ منفردة ومريحة بسعر ٧٥ قرشاً.

هناك في الزاوية الشمالية الشرقية من دار السينما، كان شباك التذاكر — الذي يديره محمد مراد، شقيق الأستاذ فيصل، مدرس الرياضيات — يبيع التذاكر ويعرض الموالح في الوقت نفسه.

وللدعاية، كانت هناك صناديق خشبية معلقة في نقطتين استراتيجيتين: أحدهما على حائط القصّاب الحلبي أبو بكري، والآخر على جدار مقهى آدم، تُعرض فيها صور الفيلم وكأنها نوافذ إلى عوالم أخرى.

أما في الداخل، فكان هناك اثنان من أشهر وجوه المدينة: يوسفي برجس، مشغل آلة العرض، وحمادي يحيى، حارس الباب. كانا يتأنقان كنجوم السينما أنفسهم: قميصان متشابهان، قصة شعر واحدة، وربطة عنق لامعة. وكان الأهالي يقولون إن مجرد مرورهما في السوق يعني أن فيلماً جديداً سيعرض تلك الليلة.

ومع كل عرض، كانت تحدث المفارقات.

أحياناً ينقطع شريط الفيلم، فتتعالى الصيحات والصفير من الصالة:

“يووووسفي..!. يا خراب بيتك..!.”

فيرد يوسفي من غرفة العرض بنكتة أو شتيمة ضاحكة.

وتتحول لحظة العطب تلك إلى مشهد كوميدي يشارك فيه الجميع، كأنها جزء من الفيلم نفسه.

وكان حمادي على بابه يحرس التذاكر بصرامة، لكنه كان يملك حيلة طريفة لكشف من sneaks in خلسة أثناء الاستراحة:

كان يلمس أذن الصبي ليتأكد إن كانت دافئة — علامة على أنه خرج للتو.

لكن الصبية اكتشفوا الحيلة، فراحوا يلفّون رؤوسهم بالشماغ أو الملفحة كي لا تُكتشف الأذن.

وهكذا تحولت لعبة الدخول إلى “فلكلور” شعبي لا يخلو من الدعابة.

كانت السينما في الدرباسية أكثر من دار عرض… كانت طقساً اجتماعياً يوحّد المدينة في مساء واحد، يجمع الكوردي والسرياني والعربي في ظلال شاشة بيضاء واحدة. هناك، حيث تتلاشى الفوارق، ويصبح الجميع جمهوراً لفيلم واحد، وضوء واحد، وحلم واحد.

ومع مرور الزمن أُغلقت الدور تباعاً: جليل أطفأ أضواءه، وسلوى احترقت في الستين، والزهراء الصيفية والشتوية تحولت إلى دكاكين. لكن الذاكرة ما زالت هناك… في الأحاديث الدافئة للمسنين، في رائحة البوظة القديمة، وفي حنين مدينةٍ كانت تُضيء لياليها بشاشة صغيرة وأحلام كبيرة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نص: حفيظ عبدالرحمن

ترجمة عن الكردية: فواز عبدي

 

جاري الافتراضي كئيب

جاري الافتراضي حزين

جاري الافتراضي يحلب اليأس

يحتسي الوحدة

يبيع الحِكَمَ المكوية برعشة الآلام

بثمن بخس.

 

من نافذة صفحتي

أرى

مكتبه

صالونه

غرفة نومه

مطبخه، شرفته، حديقته

ومقبرة عائلته.

من خلال خربشات أسطره

أقرأ طنين النحل

في أعشاش عقله.

 

جاري الافتراضي

يكتب على جدار صفحته

كلمات مثقوبة بالألم

محفورة بمسامير التنهدات

يمسحها

ثم يعيد…

مروة بريم
لم يسبق لي قطُّ أنْ رأيتُ الجزيرة، تكوَّنت صورتها في ذهني، من قُصاصات مطبوعة في المناهج المدرسية، وما كانت تتداوله وسائل الإعلام. عَلِقت في ذهني صورة سيدات باسقات كأشجار الحَور، يأوينَ إلى المواقد في الأشتية القارسة، تشتبكُ القصصُ المحلّقة من حناجرهنَّ، مع صنانير الصّوف وهنَّ يحكنَ مفارش أنيقة، وفي الصَّيف يتحوَّلن لمقاتلات…

شيرين اوسي

عندما تكون في الشارع وتحمل في احشاءها طفلها الاول

تتحدث عنه كأنها تتحدث عن شخص بالغ

عن ملاك تتحسسه كل ثانية وتبتسم

يطفئ نور عينها وهي تتمنى ضمه

تقضي في حادثة اطلاق نار

رصاصة طائشة نتيجة الفوضى التي تعم المدينة تنهي الحلم

تموت وهي تحضن طفلها في احشاءها

ام مع وقف التنفيذ

تتحسس بطنها

ثم تتوسل لطبيب المعالج

ساعدني لااريد فقد كامل…

إبراهيم محمود

البحث عن أول السطر

السرد حركة ودالة حركة، لكنها حركة تنفي نفسها في لعبة الكتابة، إن أريدَ لها أن تكون لسانَ حال نصّ أدبي، ليكون هناك شعور عميق، شعور موصول بموضوعه، بأن الذي يتشكل به كلاماً ليس كأي كلام، بالنسبة للمتكلم أو الكاتب، لغة ليست كهذي التي نتحدث أو نكتب بها، لتكتسب قيمة تؤهلها لأن…