قلعة الملح…حين تتقاطع الذاكرة مع الجغرافيا في حكاية اللجوء والهوية

ياسر بادلي

في عمله الروائي “قلعة الملح”، يسلّط الكاتب السوري ثائر الناشف الضوء على واحدة من أعقد الإشكاليات التي تواجه اللاجئ الشرق أوسطي في أوروبا: الهوية، والاندماج، وصراع الانتماء. بأسلوب سردي يزاوج بين التوثيق والرمزية، يغوص الناشف في تفاصيل الاغتراب النفسي والوجودي للاجئ، واضعًا القارئ أمام مرآة تعكس هشاشة الإنسان في مواجهة مجتمعات جديدة بثقافات مغايرة، وقيم لم يألفها من قبل.
تدور الرواية حول شخصية سامي إسماعيل، الشاب الذي يجد نفسه مشدودًا بين ضفتين جغرافيتين وزمنيتين: المشرق الذي يحمل ذاكرة الحرب والنزوح، والغرب الذي يفرض عليه معايير اندماج لا ترحم هشاشة التجربة. لكن اللافت في هذه الحكاية، هو أن سامي لا يدخل أوروبا كلاجئ فقط، بل كـ حفيد لرقيب نمساوي ألماني يُدعى شتيفان فالتار، خدم في الجيش خلال الحرب العالمية الثانية.
من خلال هذا التشابك العائلي، يقدّم الناشف جسرًا روائيًا فريدًا بين الشرق والغرب، حيث تُصبح “قلعة الملح” كما جاء في عنوان الرواية رمزًا للتحولات الكبرى التي تشهدها الهوية عندما تتقاطع المآسي البشرية مع الجغرافيا والتاريخ.
في سياق الرواية، نكتشف أن الجد شتيفان كان أحد الجنود المشاركين في معركة ستالينغراد، تلك المعركة الكارثية التي تحوّلت إلى رمز للدمار العبثي للحرب. لكن شتيفان، الرافض لانتهاكات الحرب، يقرر الهروب من الجيش والانشقاق عن آلة الموت، فيلجأ إلى سوريا، حيث يجد في الشرق ملاذًا من قسوة الغرب الذي صنعه.
هنا تنفتح الرواية على أسئلة كبرى حول الحرب واللجوء والمعنى الحقيقي للانتماء. فالشاب سامي لا يكتفي بالهروب إلى “قلعة الملح”، بل يعود إليها حاملاً ذاكرة جدّه، ويعيد اكتشاف ذاته في مرآة التاريخ العائلي الذي يتجاوز الحدود السياسية والثقافية.
كما تعالج الرواية إشكالية الاندماج على مستويات متعددة: اللغة، والانخراط في النسيج الاجتماعي الأوروبي، والتعامل مع نظرة الآخر للاجئ القادم من بلادٍ تمزقها الصراعات. “قلعة الملح” في هذا السياق، ليست فقط مكانًا، بل مجازٌ للعبور بين الماضي والمستقبل، بين الانتماء والاغتراب، بين الشرق الذي لفظ أبناءه، والغرب الذي لم يستطع احتواءهم.
برؤية فنية وإنسانية عميقة، يقدم ثائر الناشف روايته كـ محاولة لفهم الإنسان عندما يصبح ضحية الحروب والحدود، وبحثٍ مؤلم عن مكانٍ يمكن أن يُسمّى “وطنًا” في زمن الهويات المهشّمة والمنفى الطويل.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كانت الورشة ساكنة، تشبه لحظة ما قبل العاصفة.

الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد ينساب بخجل على ملامح رجلٍ أنهكه الشغف أكثر مما أنهكته الحياة. أمامه قالب معدني ينتظر أن يُسكب فيه الحلم، وأكواب وأدوات تتناثر كأنها جنود في معركة صامتة.

مدّ يده إلى البيدون الأول، حمله على كتفه بقوة، وسكبه في القالب كمن يسكب روحه…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كلّ الأشياء تخلو من الفلسفة” للكاتب والباحث العراقيّ مشهد العلّاف الذي يستعيد معنى الفلسفة في أصلها الأعمق، باعتبارها يقظةً داخل العيش، واصغاءً إلى ما يتسرّب من صمت الوجود.

في هذا الكتاب تتقدّم الفلسفة كأثرٍ للحياة أكثر مما هي تأمّل فيها، وكأنّ الكاتب يعيد تعريفها من خلال تجربته الشخصية…

غريب ملا زلال

بعد إنقطاع طويل دام عقدين من الزمن تقريباً عاد التشكيلي إبراهيم بريمو إلى الساحة الفنية، ولكن هذه المرة بلغة مغايرة تماماً.

ولعل سبب غيابه يعود إلى أمرين كما يقول في أحد أحاديثه، الأول كونه إتجه إلى التصميم الإعلاني وغرق فيه، والثاني كون الساحة التشكيلية السورية كانت ممتلئة بالكثير من اللغط الفني.

وبعد صيام دام طويلاً…

خالد بهلوي
يُعدّ مهرجان الشعر الكردي السنوي واحدًا من أبرز الفعاليات الثقافية التي تُعنى بالإبداع الأدبي في المجتمع الكردي. ويُقام هذا المهرجان كل عام، مستقطبًا شعراء ومثقفين، ليشكّل منصةً فريدة تجمع بين الكلمة الحرة والتراث والهوية الكردية.
ليست مهرجانات الشعر الكردي مجرّد فعاليات أدبية تُقام سنويًا، بل هي رمزٌ من رموز التعبير عن الدور الثقافي لشعبٍ حُرم…