أحمد عبدالقادر محمود
اجتازا حاجز المعارضة المنصوب على أحد مداخل المدينة ، لم يكن الأمر غريباً ، كانا معروفين من قِبل عناصر الحاجز ، سارا معاً قرابة الساعتين وهما يتحدثان عن الثورة ومآلاتها ، أعجب درويش بأفكار فطين ، وعمق تحليلاته ومنطقة السلس الآخّاذ ، وهدوئه إلى جانب شخصيته الكارزمية ، تيقن درويش أن فطيناً سيكون من زعماء المعارضة ، وسيغدو ذو شأنٍ في مستقبل البلاد ، إن انتصرت الثورة و سقط نظام الإجرام .
افترقا وتواعدا على أن يلتقيان غداً ، للحديث أكثر عما يجب فعله ، كان درويش في أشد الشوق للقائه ، فلم يكن يعرفه من قبل إنما التقاه اليوم صدفة في أحد التجمعات ، أنتظره درويش في المكان الذي تواعدا فيه لأكثر من ساعتين ولكن لم يحضر فطين ،
ما أغباني ليتني طلبتُ منه رقم هاتفه ، كيف سأعرف ما الذي أخّره ، أو ماذا جرى له ، في هذه الأيام نحن على كف عفريت .
كان يُحدث نفسه عندما شاهد جمعاً يفرون في كل حدبٍ وصوب من عناصرٍ يلاحقونهم ، فهام هوالأخر على وجه ، ولم يتوقف إلا عندما لمح حاجزاً للموالاة أمامه وعلى مقربة منه ارتعدت اوصاله وجحظت عيناه ، ليس من الخوف فهو اعتاد على هذا الأمر منذُ أن إشتعل الحراك ، إنما رأى فطيناً هناك بين عناصرحاجز النظام ، يقهقه ويكاد أن ينقلب على ظهره من شدة القهقه ، تراجع إلى الوراء وهو يصرخ على نفسه ، نعم أنا درويش ، أنا درويش كيف خُدعت به ، لا بل كيف خدعني ، أنا درويش والله أنا درويش .
لم يكن درويش درويشاً كما وصف نفسه ، الثعلبُ مخادعٌ كهين ، عاد درويش أدراجه إلى حيث يجب أن يكون ، إلى المكان الذي أكتشف فيه للمرة الأولى أنه حر ، المكان الذي يستطيع فيه أن يصرخ بأعلى صوته ما يشاء ، كانت جرعة الحرية قويةً ، تُثمل أكثر من الخمرة المعتقة .
ما هذا !؟ إنه هو ، نعم إنه هو ، ياللسماء ! كان هناك ، رأيته ، كان يرتدي ثياباً غير هذه ، نعم حتى ثيابه في المرة الأولى كانت مختلفة ماذا دهاك يا درويش ، هل تحلُم ؟ أيُعقل أن ترى ذات الشخص في ذات الوقت بمكانين مختلفين ! نعم ربما أنا مخطئ ، وربما خانتني عيناي ، أو ربما ، ربما ماذا ؟ لأقطع الشك باليقين ! قرر أن يناديه بإسمه ، فطين ياااااا فطين ، بالكاد سمعه فطين ، كانت الجموعُ تردد ما يقوله بهياج مرتفع ، هلم يا صديقي درويش أصعد المنصّة ، و لنصرخ بالحرية معاً .
تردد درويش في البداية ، ولكن تحت إصرار فطين وجد نفسه بجانبه فوق المنصة ، و بدأ يزأر معه و الجموع الحاضرة تهلل و تكبر
تفرق الجمع وعاد كلٌ إلى شأنه ، أما درويش أخذ فطينٌ من يده وجرّه إلى مكانٍ منزوي ، باغته بالسؤال :
ماذا كنت تفعل هناك ؟ لقد رأيتك بأم عيني ، ثم كيف ومتى استطعت أن تبدل ثيابك ؟! هناك رأيتك بالبدلة الخاكية المرقطة و هنا أرى عليك ثياباً مدنية ؟! هل عندك تفسير لهذا الأمر ؟
قهقه فطين ، و هو المشهد ذاته الذي رأه درويش ، عندما أبصر فطين بين عناصر حاجز النظام ، نعم يا فطين لقد فعلت الشيء نفسه هناك !؟ أُريد منك تفسيراً و إلّا سأكشف أمرك .
قهقه فطين مرة أخرى و لكن هذه المرة بصوت أعلى و ملامح الخبث باديةً على وجهه ، أُنظر يا صديقي ، أنك واهم ! كيف تعتقد ذلك ؟ أيُعقل أن تراني في مكانين مختلفين في الزمن ذاته !؟ في اللحظة الزمنية ذاتها !؟معقول تكون من أنصار نظرية التراكب الكمي في ميكانيكا الكم ! أو يمكن أنت تواجدت في مكانين مختلفين !؟ ويطلق قهقهة أخرى
يقطع درويش استرسال فطين في القهقه ، أنظر يا فطين لم أُجن بعد و ما تقوله عن هذه النظرية ، لا أعرف عنها شيئاً ، كل ما أعرفه إني رأيتك بعيني هاتين و اليوم بالذات وليس من شهر أو سنة ، كي يختلط عليّ الأمر ، أريد تفسيراً و ليست سفسطةً .
أدرك فطين أن صاحبه جاد ، و أنه لن يترك الأمر بالسهولة التي يتوقعها ، وهذا ما سيجعل الأمر عليه صعباً في مسعاه ، طيب يا درويش اليوم تعبنا كثيراً ويبدو أننا لن نصل لشيءٍ يرضيك و يبدد شكوكك ، أقترح أن يذهب كلٌ منا إلى حال سبيله و نلتقي غدا في الساحة ذاتها ، وبعد الإنتهاء من النشاط نجلس سوية ونتكلم بالأمر، هل أنت موافق ؟
لا ضير أنا أيضاً اشعر بالتعب بعد يوم حافل بالحركة ، نلتقي غداً .
عاد درويش إلى منزله ، وبعد أن تناول طعام العشاء ، أدار جهاز التلفاز كي يشاهد تغطية الحراك النشط في بقية المناطق و المحافظات الأخرى ، تجول بين القنوات الناقلة ، حينها كانت جميع القنوات في تغطية مباشرة للحدث السوري و على مدار الساعة ، فجأة أنتفض درويش من مكانه ووقف أمام شاشة التلفاز ، يا إلهي هل جننت حقاً !؟ ما الذي أره ؟! فطين يظهر في جميع القنوات و في كل المناطق ، يارباه أعني ، هل أنا في حلم ؟ وبدأ يصفع وجهه بكلتا كفيه ، كي يتأكد أنه في حالة يقظة أم في حلم ! نعم لا أحلم إنه هو يظهر مرة كقائدٍ
للحراك ، ومرة كضابط في جيش النظام ومرة يظهر كمراسل للطرفين ، ومرة كمحلل سياسي للجهتين ومرة قائد فصيلٍ مسلح ومرة قائدٍ لما يسمى قوى الدفاع الوطني ، ومرة ومرة، و مرة ، ومرة ……. ، كاد أن يُجن ، عاد إلى أريكته بعد أن شعر بوهنٍ كبير في جسده ، وأضطرابٍ في ذهنه ، استلقى على الأريكة ووجهه نحو سقف الغرفة و ما هي إلا دقائق حتى غفى دون إرادة منه ، لم تمضي ساعة على رقاده حين أستيقظ على صوت طرقٍ عنيف على باب منزله ، قفز من مكانه هلعاً ، و أسترق النظر من طرف النافذة المطلة على الشارع كي يستبين القادم ، حينها كانت الإعتقالات على أشدها ومن يذهب لا يعود ، استنفرت أذناه لتسترق السمع ، ما هي لحظاتٍ حتى سمع صوتٍ يناديه ، الأخ درويش أفتح لنا الباب ، لا تخف فنحن رجال القائد فطين ، رجال القائد فطين !؟ ومتى صار عنده رجال !؟ هكذا حدّث نفسه ، شعر بنوعٍ من الطمأنينة وذهب لفتح الباب ، دخل جمعٌ من الرجال مختلفي الأعمار ، بعد أن رحب بهم و أجلسهم في بهو المنزل ، سأل : عفواً قلتم أنكم من رجال فطين ؟ رد عليه أحدهم ، نعم و هو من أرسلنا إليك و قال كي تطمئن نفسه قولوا له نظرية التراكب الكمي ، حسناً أهلا بالشباب ، كيف أستطيع خدمتكم ؟
الحقيقة هي رسالة من القائد فطين أراد أن نوصلها لك قبل أن تلتقيا غداً ، حسناً ما مفادها كلي سمعً لكم ، أخ درويش دعنا نعرفك على أنفسنا بداية ، اشار لأحدهم : هذا الأخ مسؤول اللجان التنسيقية ، و هذا مسؤول المجالس المحلية ، وهذا مسؤول حواجزالثوار و هذا مسؤول حواجز النظام ، و هذا من ضباط الجيش الحر ، وهذا من ضباط الأمن عند النظام ، وهذا من المراسلين على الأرض و هذا من إعلام قنوات النظام و هذا و هذا …… ،
أترى جميعنا في خدمة الثورة و النظام ، كلٌ حسب المهام المكلف بها ، هل وصلت الرسالة
وصلت ولكن لم أفهم المقصد
هذا ليس من شأننا ، غداً عندما تلتقي القائد فطين اسأله عن ذلك ، والأن أسمح لنا بالذهاب طابت أوقاتك
خرج الجميع كما دخلوا ، ولكن درويش دخل في دوامة أشد وطأةً و حيرة
لم يُغمض له جفن ، أصبح الصباح و الشمس في كبد السماء ، خرج مسرعاً إلى الساحة و كُله يبحث عن فطين .
إنه هناك ، يتوسط ثلة من المتظاهرين ، يصغون له بإنصات ، وهو كعادته يتكلم بإبتسامة أخَّاذة ، رفع درويش له يده ، مُعلناً أنه هنا ، أشار فطين له بالإنضمام إليهم
-أهلا درويش ، أتمنى أن تكون في جاهزية تامة ، فأمامنا عملٌ شاق اليوم
صمت درويش و كأن على رأسه الطير و نظر لفطين نظرة المستعجب ، واصل فطين حديثه مع المجموعة
-يا إخوان دخلنا وأبتدأً من اليوم مرحلة جديدة وخطيرة ، يجب أن نكون اشد تنظيماً و أكثرإنتباهاً وحرصاً ، النظام يعد العدة وبكل قوة لإنهاء هذه الثورة ، ويجب أن نعلم أنه سيستخدم كل الأسليب الإجرامية لتحقيق ذلك ، أتمنى أن تأخذوا هذا التحذير بعين الإعتبار ، والأن يجب عليَّ الذهاب مع صديقي درويش ، فأماننا عملٌ يجب أن تقوم به .
إلتقط يد درويش و أبتعدا عن المجموعة ، ثم مال على أذن درويش
-ها صديقي كيف كانت ليلتك ؟
– لم أنم ولديَّ أسئلة كثيرة لك ، أولها …
قاطعه فطين
-أعرف ما يجول في خاطرك ، لقد رأيتني على كل القنوات الفضائية في نفس اللحظة ، و ستسألني عن المجموعة التي زارتك بعد منتصف الليل ، وأيضاً بأنك لم تفهم رسالتي ، و الأهم من أنا ، أليس كذالك ؟
درويش مذهولٌ مما سمعه ، يسأل نفسه حقاً من هذا الرجل
-فطين من تكون ؟ من أنت ؟ أريد تفسيراً لكل ما حدث مُذ رأيتك أول مرة ؟
– حسناً يا درويش ، ولكن عليك أولا أن تجبني على أسئلة أطرحها عليها ، موافق ؟
أدرك درويش رغم براءة سريرته أنه أمام داهية ، لا بل ألعوبان خطير
تفضل ماذا تريد أن تعرف ؟
– ما مفهومك للفوضى ؟
– حسب معرفتي هي ارتباك و عشوائية و غياب للنظام ….
– أحسنت ، و ما نتيجتها ؟
– لا يمكن التنبؤ بالنتيجة ، هي خاضعة بظروفها
– أحسنت ، عرّف لي مصطلح الثورة ؟
– حركة شعبية ، سلمية أو عنيفة ، لتغير واقعٍ ما ، تغيرٍ جذري أو جزئي
– جميل ، ما هي نسب نجاحها أو فشلها ؟
– الأمران واردان وبنسبٍ متفاوتة ، حسب ظروفها و مآلاتها
– إذاً لا يمكن التنبؤ بالنتيجة ، من حيث كونها ستنجح أو ستفشل ؟ هنا نحن أمام معضلة حقيقية حسب إجاباتك ، معضلة المآلات !
حسناً ، أود أن أقول ……
-انتظر ما شأن هذه الأسئلة بما يجول في خاطري عنك !؟
– سأخبرك ، فقط أريدك أن تتابع معي ، الأن سنفترض أن الثورة قد نجحت ، بعد إستبعاد فشلها طبعاً ، كون فشل الثورة يعني بشكلٍ أو بأخر إنتهاء المشروع ، ما هي الخطوة الأولى في ذهنك التي ستلي هذا المنجز ؟
– بعد الإحتفال بالنصر ، من المؤكد هو التفكير بقيادة صالحة مؤقته تُسند لها مهمة قيادة المرحلة الراهنة
– جميل ، هل لديك تصوّر عن ماهية هذه القيادة المرحلية المؤقتة ؟
– حقيقة لا ، ولكن من المفترض أن يكون عناصرها من النخبة التي تسيدت هذا الحراك
– هل كان لهذا الحراك بالاصل قيادة موحدة يؤتمر بها الثوار ؟
– لا
– إذاً نحن أمام فوضة أخرى من التجاذبات ؟ ربما تطول وربما تَقصُر، حسب التوافقات
– هذا صحيح
– حسناً إن طالت ؟ و لم تتوصل الأطراف إلى رؤية مشتركة حول القيادة ، إلى ماذا ستؤول الأمور
– حتما إلى فراغ غيرُ محمود
أدرك درويش أن فطين يتلاعب به ، وأن هذه الإفتراضات المستقبلية ليست سوى متاهاتٍ فتحها أمامه و وضعه في دهاليزها
أسمع يا فطين ، أنك تتلاعب بي ! وحتى الأن لا أرى أي رابط بين أسئلتك و بين سؤالي
-كيف ذلك يا درويش ؟ ألم تفقه بعد من أسئلتي من أنا ؟ أنا النتيجة الحتمية لحراك بلا رأس ، أنا المآل لثورة بلا عقل ، أنا الواقع لفوضى الإرادات ، أنا الظل اللامرئي لمسارات الأحداث المنحرفة عن هدفها ، أنا الخيبة الكبرى ، أنا درويش يا درويش
– ما كنت أظن أني بهذه التفاهة وهذه السذاجة ، بل لم أكن أُدرك أن التغير لا يكون دائماً نحو الأفضل ، كنت أعتقد دائماً أن الخلاص يكمن في التحرر من القيود المصطنعة ، تائهاً عن القيود الحقيقية
هكذا كان درويش يمضي مراجعاته اليومية ، ساعة يكون هو ، وساعة يكون ظل نفسه .
هولير \إقليم كوردستان