خوشناف سليمان
لم تكن الصحراء في تلك الليلة سوى صفحة صفراء فارغة. تنتظر أن يُكتب عليها موتٌ جديد.
رمل يمتد بلا نهاية. ساكن كجسدٍ لا نبض فيه. و الريح تمر خفيفة كأنها تخشى أن توقظ شيئًا.
في ذلك الفراغ توقفت العربات العسكرية على حافة حفرة واسعة حُفرت قبل ساعات.
الحفرة تشبه فمًا عملاقًا. فمًا ينتظر أن يبتلع آلاف البشر دفعة واحدة.
أُنزل الناس من الشاحنات تحت ضرب السياط و أصوات الجنود.. آلاف الكرد يُساقون تحت فوهات البنادق.
نساء يحملن أطفالًا نصف نائمين من الخوف. رجال مكبّلون بالعرق والتراب. شباب بعمر الأغاني. فتيات بعمر الندى. و عرسان لم تجفّ الحناء بعد من أصابعهم.
لا أحد ينظر خلفه. الجميع ينظر إلى الحفرة كأن العالم قد انتهى هنا.
في منتصف الحشود كان سالار. شاب بملامح جبلية. عينيه ثابتتان أشبه بحجرٍ لا يتزحزح.
يداه داخل جيبه حيث يخفي ورقة صغيرة طواها قبل ساعات. آخر شيء سيتحرك من جسده.
لم يكتبها لأخيه التوأم كوران. و لا لوالده. بل لطفلٍ لم يعش إلا ثلاثة أيام. طفل لم يتعلم بعد كيف يمسك الهواء.
كانت الورقة تقول:
يا بني.
إذا كبرت يومًا في ظل هؤلاء. لا تصدّق أن الجبل ملكهم.
الجبل. جبلنا. و نحن الذين نغني ونقول: يا جبال كردستان يا حبيبة.
أحبِب وجه أمك ولو كان التراب على خديها.
لا تخن من حملتك من دمها.
وإذا سألك أحد من تكون. قل: أنا ابن الذين لم ينحنوا أبدًا. بل قضوا واقفين أبدًا.
الكل يسير نحو الحفرة. كأن الصحراء قررت أن تبتلع الجيل كله دفعة واحدة.
حين صدرت الأوامر. بدأ الجنود بدفع الناس إلى الحفرة دفعة واحدة.
تدافعت الأجساد كأنها موجة بشرية سقطت من السماء.
النساء صرخن. الأطفال تعلقوا بأثواب أمهاتهم. و الرجال حاولوا رفع رؤوسهم قبل أن يختطفهم الغبار. و بدون تأخير. تقدمت المجنزرات. بدأ الردم. الرمل يهوي أولًا خفيفًا. ثم يثقل. ليصير موجة من الطمي والحجارة.
صرخات ترتفع ثم تتقطع. أيدٍ تمتد ثم تختفي. بعضهم يحاول الصعود. البعض يحفر بيديه العاريتين. و أمهات يحاولن تغطية أطفالهن بأجسادهن.
رؤوس تظهر للحظة. ثم يغطيها الرمل مرة أخرى.
سالار عيناه تبحثان عن شيء. ربما عن السماء.
في اللحظة الأخيرة قبل سقوطه. رفع الورقة إلى الريح.
تلقفتها الريح الصحراوية ورفعتها بعيدًا. بعيدًا لدرجة لم يرها أحد بعد ذلك.
الأصوات تخفت.. ثم تنقطع تمامًا.
وفي دقائق فقط. أصبحت الحفرة سطحًا مستويًا لا يشبه شيئًا مما كان قبل قليل.
لم يبقَ سوى الصمت.
بعد أيام. في طرف الصحراء. وجد أحد الحراس الورقة ملقاة قرب شجيرة خرنوب ميتة.
كانت الورقة مشدودة الأطراف. ثقيلة بحروفها.
قرأها. قرأها مرة أخرى.
شعر أن الكلمات ليست مجرد رسالة. بل شَظية خرجت من قلبٍ دُفن حيًّا.
أخذها إلى خيمته. ويده ترتجف كأن الكلمات تخرج من الأرض.
حين عاد الحارس إلى البيت في إجازة قصيرة. وجد زوجته تنتظر عودته.
جلس قربها وقرأ عليها الرسالة بصوت خافت. كأنه يقرأ على قبرٍ مفتوح.
هزّت المرأة رأسها ومسحت دمعة سالت رغماً عنها.
قال الجندي: / هذه الرسالة يجب أن تصل. لو كلفني ذلك حياتي./
لم يكن يعرف أن الطفل المولود قد مات تحت الرمل. فوق صدر أمّه. بالقرب من جسد أبيه. وأن لا أحد بقي ليستقبل الكلمات.
بعد أيام. جاءت أوامر جديدة:
/ تخلّصوا من الحراس. لا نريد شهودًا./
قُتل الجندي مع رفاقه في تلك الليلة. وجُمعت جثثهم بسرعة ودُفنت في حفرة صغيرة إلى جوار الحفرة الكبرى. حفرة صُنعت لتُخفي أدلة الجريمة والشهود معًا.
لم يكتب أحد أسماءهم. ولم يُسمح لأحد أن يبكيهم.
أُغلق الرمل فوقهم كما أُغلق فوق الذين قبلهم.
الورقة ضاعت مرة أخرى. تائهة في صحراء لا تريد أن تعيد شيئًا مما أخذت.
لكن الريح. حين تهب من جهة كردستان. تمر فوق تلك الأرض وتعلو قليلًا. كأنها تبحث عن ورقة صغيرة حملت آخر صوت من سلالة كاملة. ورقة تبحث عن طفلٍ لم يكبر. وعن أبٍ ما زال يسمع صدى وصيته في الريح.