شعرية الهامش وفلسفة المكان: قراءة في مجموعة “جمال العالم الموجود”

غالب حداد

  1. 1. مقدمة: استكشاف “العالم الجميل الموجود”

تُقدّم مجموعة القاص والشاعر الكردي السوري عبد الرحمن عفيف، “جمال العالم الموجود”، نفسها كعمل أدبي ذي كثافة شعرية فريدة، يرسم ملامح مجتمع مهمش، ويحول تفاصيل حياته اليومية إلى مادة للتأمل الفني والوجودي. ويأتي تحليل هذه المجموعة، التي تمثل تطورا لافتا في مشروع عفيف الأدبي الذي تجلت ملامحه في أعمال سابقة مثل “غريق نهر الخنزير”، ليكشف عن صوت أدبي متفرد يتقن فن التقاط اللحظات العابرة وتحويلها إلى حكايات خالدة. إنها شهادة أدبية على بلدة “عامودا”، المدينة التي تشكل الكون القصصي للمجموعة، وتتحول على يد الكاتب من جغرافيا واقعية إلى فضاء أسطوري غني بالدلالات.

تتمثل الأطروحة المركزية لهذا النقد في أن مجموعة “جمال العالم الموجود” تستخدم لغة شعرية مكثفة وصورا تمزج بين الواقعية والسريالية لرسم بورتريه للحياة في عامودا يتأرجح بين الحنين والنقد. يستكشف عفيف من خلال قصصه ثيمات الذاكرة الفردية والجماعية، وديناميكيات المجتمع الهامشي، وقدرة الفن على الصمود كفعل مقاومة ضد التهميش والنسيان.

العمل من تأليف عبد الرحمن عفيف (المولود في عامودا، 1971)، ولوحة الغلاف للفنان لقمان أحمد. وصادر عن دار سامح للنشر في طبعته الأولى عام  2025. ومن خلال هذا النقد، سنسعى إلى تفكيك العناصر البنائية التي تشكل عالم المجموعة القصصي، بدءا بالمكان الذي يشكل العمود الفقري لهذا العالم.

  1. 2. شاعرية المكان: عامودا ككونٍ أدبي

في مجموعة “جمال العالم الموجود”، لا يمثل المكان مجرد خلفية للأحداث، بل هو شخصية مركزية، كائن حي يتنفس وتتشكل به الشخصيات. إن تحليل المكان هنا ضروري لفهم الكيفية التي يحوّل بها عفيف الجغرافيا الواقعية لبلدة عامودا ومحيطها إلى فضاء أدبي أسطوري. وعلى غرار أكوان أدبية أيقونية كـ “يوكناباتاوفا” عند فوكنر أو “ماكوندو” عند ماركيز، يبني عفيف عالما متكاملا بخصوصيته السورية-الكردية، حيث تكتسب المعالم الطبيعية والعمرانية أبعادا رمزية عميقة.

تتحول البلدة إلى عالم قائم بذاته، بشوارعها “المغبرّة صيفا والموحلة شتاء”، ومقاهيها التي تصبح مسرحا لأحلام وهواجس روادها. وتكتسب معالم جغرافية محددة أهمية رمزية خاصة، كما يتجلى في قصص مثل “شارع الكتم”، و”بهلوانيات عند درابزون الجقجق”، و”متجاوز الشوارع”:

  • نهر الخنزير: يظهر هذا النهر كرمز للجفاف العاطفي والثقافي. لكن في قصة “فيضان”، يصبح رمزه أكثر قوة حين يفيض بشكل مدمر بعد جفاف طويل. هذا الفيضان ليس مجرد انفجار مكبوت، بل هو استعارة بليغة للحالة السياسية والاجتماعية في المنطقة: فترات طويلة من الجفاف الثقافي والسياسي، تليها فيضانات عنيفة ومدمرة، ولكنها عقيمة في نهاية المطاف، فكلُّ تمرد أو تغيير لا يلبث أن ينحسر.
  • السبع بحرات: تُصوَّر هذه الساحة كنقطة محورية في حركة الشعراء والقصاصين، لكنها في قصة “شعر الموسيقي شرقي الشَّعر”، تتحول إلى “هيكل جاف ينتظر الماء”، مما يرسخ فكرة الفراغ والانتظار العبثي الذي يهيمن على المكان.
  • السينما المحترقة: تبرز كذاكرة جماعية مؤلمة، وجرح غائر في وعي الشخصيات. في قصة “طعم الخبز والأسنان الجميلة”، لا يعود الحريق مجرد حدث تاريخي، بل يصبح جزءا من الحاضر، وتتحول حديقتها إلى فضاء رمزي يحتضن تماثيل الخيال والصمت.

يساهم الوصف الحسي الدقيق للشوارع التي “تبلغ الوحول رسغ الأقدام شتاء”، والمقاهي مثل “مقهى كوي وجوزي وداري”، في ترسيخ شعور مزدوج يجمع بين الحنين إلى تفاصيل المكان والواقعية القاسية التي تطبع الحياة فيه. وهكذا، يبني عفيف مكانا أدبيا فريدا، تتفاعل فيه الجغرافيا مع الذاكرة، لتسكنه شخصيات هي نتاج هذا المكان وصدى لروحه.

  1. 3. فسيفساء الأرواح: الشخصيات وتكوين المجتمع

لا تقتصر شخصيات “جمال العالم الموجود” على كونها أفرادا يعيشون قصصهم الخاصة، بل هي نماذج تمثل شرائح متنوعة من مجتمع عامودا، وتشكل معا فسيفساء غنية بالأرواح والتناقضات. فهم هذه الشخصيات هو مفتاح لفهم الديناميكيات الاجتماعية والروحية التي تحكم هذا العالم القصصي، حيث كل شخصية هي انعكاس لهمٍّ جماعي أو حالة وجودية مشتركة.

يمكن تصنيف النماذج المتكررة للشخصيات على النحو التالي:

  • الشعراء والمثقفون: تحتل هذه الفئة مكانة مركزية في المجموعة. شخصيات مثل “الشاعر السريالي”، و”الأمير”، و”الضيف الشاعر”، و”أبو فاطما” يعكسون هواجس الفن، وصراع المثقف مع محيطه، والبحث الدائم عن المعنى في بيئة تبدو على وشك الانهيار.
  • الشيوخ والمتصوفة: تتجلى هذه الفئة في شخصية “الشيخ عفيف”، الذي يمثل الزهد الحقيقي والمعرفة العميقة، في مقابل المظاهر السطحية لشيوخ الطرف الآخر من النهر. وتتجذر هذه الصورة في تفاصيل دقيقة من قصة “الجاكيت الأخضر”، حيث يرتدي “كلّابية رخيصة الثمن”، ويقيم علمه على مكتبة تضم أمهات الكتب من “تفسير القرآن، البلاغة، كتب أقطاب التصوف”، ويرفض أتباعه الطقوس الاستعراضية، فهم “لا يرقصون على ضرب الدفوف”.
  • العشاق الصامتون: قصص الحب في المجموعة غالبا ما تكون محكومة بالصمت والكتمان، كما في “شارع الكتم” و”عديالا”. إن عجز هذه الشخصيات عن التعبير المباشر ليس مجرد سمة نفسية، بل هو الشرط الموضوعي الذي يستدعي الأسلوب اللغوي للمجموعة بأكمله. فصمتهم هو الذي يفرض على الكاتب “اقتصاده اللغوي” واعتماده على الرمز، ليصبح صمت الشخصيات هو أسلوب النص نفسه.
  • الشخصيات الهامشية والغريبة: تُستخدم شخصيات مثل أستاذ الديانة المكتئب، وسائق الباص، والشاعر السكير في قصة “المستوصف إلى اليمين بشارعين” لاستكشاف مواضيع الاغتراب والانهيار النفسي. إنهم يعيشون على حافة المجتمع، وحالاتهم النفسية المتأزمة هي انعكاس لأزمة أعمق يعيشها المكان بأسره.

هذه الشخصيات، بكل تناقضاتها وأحلامها وإحباطاتها، لا تعبّر عن نفسها من خلال الأفعال الكبرى، بل من خلال لغة شعرية خاصة، هي لغة الكاتب نفسه، التي تحول حكاياتهم الهامشية إلى تجارب إنسانية عميقة.

  1. 4. لغة الحنين: الأسلوب والنثر الشعري

تكمن القوة الأدبية لمجموعة “جمال العالم الموجود” بشكل أساسي في أسلوبها اللغوي، الذي وصف في مقدمة العمل بأنه “لغة شاعرية مقتصدة في المفردات”. إن تحليل هذا الأسلوب ضروري لفهم كيف يتمكن عبد الرحمن عفيف من تحويل اليومي والعادي إلى تجربة شعرية وفلسفية عميقة، حيث لا تعود اللغة مجرد أداة للسرد، بل تصبح هي الموضوع والغاية في آن.

يتميز نثر عفيف بعدة خصائص فريدة، يمكن وصفها مجتمعة بأنها شكل من أشكال “الواقعية السحرية المهمشة”:

  • الاقتصاد اللغوي: يتجلى هذا بوضوح في قصة “ملاحظات لم يُنطق بها أوان شرب الشاي”. يستخدم الكاتب جملا قصيرة، ويصف أفكارا تدور في الأذهان دون أن تُنطق، مثل التفكير في صغر إبريق الشاي، وعدم ملاءمة صورة ماركس وإنجلز لحجم الغرفة، وصولا إلى النقد الصامت لمشروع “أبو فاطما” اللغوي: “فلماذا تهدر وقتك… يا أبا فاطما!!”. هذا الصمت المعبّر يخلق جوا مشحونا بالمعاني، حيث يصبح ما لم يُقل أكثر أهمية مما قيل.
  • الصور الحسية والأونيرية: يمزج الكاتب ببراعة بين الواقعية الحية والتفاصيل الحلمية (الأونيرية) التي تكسر أفق التوقع. ففي قصة “طلع الشمس”، نجد صورة رجل “يشق صدره… وتنبُت شجرة في وسط الشق من صدره المفتوح”. وفي قصة “طعم الخبز والأسنان الجميلة”، يخلق صورة لفتى يجمع “الأصوات” و”طعم الخبز” في صندوق. هذه الصور لا تهدف إلى الغرابة، بل تكشف عن حقيقة نفسية ووجودية أعمق.
  • السرد المتدفق: تنساب القصص من واحدة إلى أخرى، مما يذيب الحدود بينها ويجبر القارئ على اختبار عامودا ليس كسلسلة من الحكايات المنفصلة، بل ككيان واحد يتنفس، كوعي جماعي. تتكرر الشخصيات والأماكن، مما يمنح المجموعة بنية متماسكة، ويجعل من القراءة تجربة أشبه بالتجول في ذاكرة البلدة نفسها.

إن هذا الأسلوب الشعري ليس مجرد حلية جمالية، بل هو الوسيلة الأساسية التي يستخدمها الكاتب لتقديم الرموز والموتيفات العميقة التي تشكل جوهر عالمه القصصي.

  1. 5. الرمزية والسريالية: تفكيك موتيفات متكررة

يتجاوز عالم “جمال العالم الموجود” معناه الحرفي ليصبح فضاء غنيا بالرموز والموتيفات المتكررة التي تعبر عن حالات نفسية واجتماعية أعمق. إن تفكيك هذه الرموز يكشف عن طبقات المعنى الخفية في العمل، ويظهر كيف يحول الكاتب العناصر المادية إلى استعارات كبرى.

  1. الغبار والوحل: يظهران كرمز مزدوج. فمن ناحية، يرمزان إلى واقع البلدة المهمش والقاسي، كما في قصة “الضيف” التي تصف الشوارع التي “تبلغ الوحول رسغ الأقدام شتاء”. لكنهما من ناحية أخرى، يصبحان جزءا من جماليات المكان وحنينه، فهما يمثلان أصالة المكان التي لا يمكن الفرار منها.
  2. القطارات والحدود: في قصة “جبال جرداء خلفها بيضاء وزرقاء”، يرمز القطار الذي يمر على “السكة البعيدة” إلى حلم الرحيل والانعتاق. لكن هذا الحلم يصطدم بواقع الحدود القاسي المتمثل في “الألغام والأسلاك الشائكة”، فيصبح القطار رمزا للأمل المستحيل، والحدود رمزا للعزلة والأسر.
  3. الحجَل: في قصة “جمال المأسورين”، يتحول طائر الحجل إلى رمز مركب. إن عنوان القصة نفسه يؤطر هذا الرمز، فهو لا يمثل “الجمال” فحسب، بل “جمال الأسرى”. يصبح الحجل، الذي يهتف بأصحابه ليقعوا في الشرك، استعارة لحالة الأكراد أنفسهم، الذين يقعون ضحية جمالهم وأسرهم وخياناتهم في آن واحد، ليصبح جمالهم معرفا بحالة الأسر نفسها.
  4. المرآة: في القصة التي تحمل عنوان المجموعة، “جمال العالم الموجود”، تُقدم المرآة كأداة للمعرفة الذاتية. لكن الإخوة يحطمونها، مفضلين التحديق المباشر في جمال أختهم الآسر. يرمز تحطيم المرآة إلى رفض التأمل الذاتي، وهو ما يعكس حالة من العجز عن رؤية الذات خارج إطارها المباشر.

تعمل هذه الرموز معا على خلق التوتر المركزي للمجموعة. فموتيفات الحصار (الوحل، الحدود، الأقفاص) وموتيفات التسامي الفاشل (القطارات التي تمر بعيدا، المرايا المحطمة) تنسج شبكة من المعاني التي تؤطر الصراع الأساسي في العمل: البحث اليائس والفني عن الجمال داخل واقع لا مفر منه.

  1. 6. الخاتمة: القيمة الأدبية لـ “جمال العالم الموجود”

في ختام هذا التحليل، يمكن القول إن مجموعة “جمال العالم الموجود” لعبد الرحمن عفيف تمثل إضافة نوعية للأدب العربي المعاصر. فمن خلال بناء مكان أدبي حي، ورسم شخصيات نموذجية، وتوظيف لغة شعرية مكثفة غنية بالرموز العميقة، ينجح الكاتب في خلق عالم قصصي متكامل ومؤثر.

تكمن القيمة الأدبية للمجموعة في أنها لا تكتفي بتوثيق حياة بلدة مهمشة، بل تتجاوز ذلك لتشيّد “ميثولوجيا مضادة” للتجربة السورية-الكردية؛ ميثولوجيا لا تستند إلى السرديات السياسية الكبرى، بل تتجذر في التفاصيل السريالية، والشعرية، والمأساوية غالبا، لفعل البقاء اليومي. إنها شهادة أدبية مؤثرة على “جمال العالم الموجود” في مكان يكافح ضد النسيان من خلال الفن والذاكرة، وهو جمال قاسٍ، حزين، وموجود في قلب المعاناة، مما يمنح العمل صدقيته وقوته.

بهذه المجموعة، يرسخ عبد الرحمن عفيف مكانته كصوت مميز في المشهد الأدبي، قادر على تحويل المحلي والخاص إلى تجربة إنسانية عالمية. إنه يقدم أدبا لا يكتفي بسرد الحكايات، بل يسعى إلى خلق شعرية خاصة من النثر، ويؤكد أن أعظم القصص قد توجد في أكثر الأماكن صمتا وتهميشا.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصطفى عبدالملك الصميدي| اليمن

باحث أكاديمي

هي صنعاء القديمة، مدينة التاريخ والإنسان والمكان. من يعبر أزِقَّتها ويلمس بنايتها، يجد التاريخ هواءً يُتَنفَّس في أرجائها، يجد “سام بن نوح” منقوشاً على كل حجر، يجد العمارة رسماً مُبهِراً لأول ما شُيِّد على كوكب الأرض منذ الطوفان.

وأنتَ تمُرُّ في أزقتها، يهمس لك الزمان أنّ الله بدأ برفع السماء من هنا،…

أُجريت صباح اليوم عمليةٌ جراحيةٌ دقيقة للفنان الشاعر خوشناف سليمان، في أحد مشافي هيرنه في ألمانيا، وذلك استكمالًا لمتابعاتٍ طبيةٍ أعقبت عمليةَ قلبٍ مفتوح أُجريت له قبل أشهر.

وقد تكللت العمليةُ بالنجاح، ولله الحمد.

حمدا لله على سلامتك أبا راوند العزيز

متمنّين لك تمام العافية وعودةً قريبةً إلى الحياة والإبداع.

المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في…

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…

سندس النجار

على مفارق السنين
التقينا ،
فازهرت المدائن
واستيقظ الخزامى
من غفوته العميقة
في دفق الشرايين ..
حين دخلنا جنائن البيلسان
ولمست اياديه يدي
غنى الحب على الافنان
باركتنا الفراشات
ورقصت العصافير
صادحة على غصون البان ..
غطتنا داليات العنب
فاحرقنا الليل بدفئ الحنين
ومن ندى الوجد
ملأنا جِرار الروح
نبيذا معتقا
ومن البرزخ
كوثرا وبريقا ..
واخيرا ..
افاقتنا مناقير حلم
ينزف دمعا ودما
كشمس الغروب …