حول كتاب “الانتفاضة: الأرشيف الكردي المغيب”

خالد إبراهيم 

في عالم يزداد فيه الصراع على الهويات المطموسة، يأتي كتاب “الانتفاضة: الأرشيف الكردي المغيب” لإبراهيم اليوسف كصرخة مدوية في وجه النسيان. هذا الكتاب، الصادر عن دار تاسك – الجزائر في عام 2024، هو جزء من سلسلة كتب للمؤلف عن انتفاضة 12 آذار الكردية. اليوسف لا يُقدم مجرد نص تاريخي أو دراسة أكاديمية جافة، بل هو أشبه بديوان شعري يعيد تجسيد أرواح الأجيال الكردية المنسية، ممزوجًا بالحزن والغضب، والعزم على إحياء ذاكرة شعب كامل تم تجريده من وجوده في السرديات التاريخية السائدة. إنه عمل يتناول ما تعرض له الأرشيف الكرد…

الكتاب، الذي يبلغ عدد صفحاته أكثر من مئتي صفحة، يمثل نداءً للدفاع عن هوية الشعب الكردي وتوثيق نضاله. وبناءً على أهمية هذا العمل، ينبغي أن يكون هناك محاضرة تشرح الكتاب وأهميته، تُلقي الضوء على الأحداث التي شهدتها المدن الكردية خلال انتفاضة 12 آذار، والرسائل التي يود المؤلف إيصالها من خلال توثيق تلك الأحداث. مثل هذه المحاضرة ستساعد على تسليط الضوء على الكتاب وتعزيز الوعي بالتاريخ الكردي المغيب، لتقديمه للجمهور العربي والعالمي بطريقة تجسد عمق المأساة الكردية وحقهم في سرد تاريخهم.

بين الأرشيف والذاكرة:

الكتاب ليس فقط استعادة لأرشيف مغيب، بل هو أيضًا استعادة لذات مفقودة. كل صفحة في هذا الكتاب هي صرخة في وجه الحاضر المليء بالنسيان والتهميش، محملة بأصداء الأصوات التي تم إسكاتها. الأرشيف هنا يتجاوز كونه وثائق تاريخية مادية؛ هو نافذة مفتوحة على الوجود الكردي ذاته، يذكرنا بأن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث بل هو ذاكرة تمتلك القوة لإعادة بناء الهوية.

في وصفه للأرشيف الكردي المغيب، يتناول اليوسف فكرة مركزية تتمحور حول الكيفية التي يتم بها تشويه التاريخ الكردي وإبعاده عن الوعي الجماعي. إنه لا يتحدث عن ضياع أوراق أو وثائق فقط، بل عن ضياع جزء من الذات الجمعية لشعب، يُغيب إرثه وثقافته، ويصبح خارج السرديات الكبرى التي تصوغ مفهوم الأمة والتاريخ. في هذا السياق، يأتي عنوان الكتاب كمعبر عن مأساة أكبر: الانتفاضة ليست مجرد حركة سياسية بل هي تمرد على الإلغاء والطمس، على أن تُكتب حكايات الشعوب بأيدي غيرها.

الأسلوب الأدبي: لغة محملة بالوجع والجمال

إبراهيم اليوسف يعرف كيف يستحوذ على القارئ بلغته التي تجمع بين الفخامة الأدبية والبساطة في التعبير عن الألم الجماعي. كل جملة في الكتاب تكاد تنفجر بمعانيها، كأنها حروف من نار تحاول أن تحرق جدران الصمت التي بنيت حول القضية الكردية. المفردات لا تأتي عابرة؛ إنها كلمات مليئة بالشجن والتحدي، تعكس ثقل المعاناة الكردية المتراكمة عبر الزمن.

الأسلوب الأدبي في هذا الكتاب ليس مجرد أداة لسرد الأحداث، بل هو جزء لا يتجزأ من الرسالة نفسها. يحوّل الكاتب لغة الاحتجاج إلى قصيدة مقاومة، تمتزج فيها الأصوات الكردية الضائعة مع صرخات الأرض التي شهدت الكثير من الدماء، لتصبح كل كلمة حجرًا يُضاف إلى بناء الذاكرة الجماعية التي يسعى إلى استعادتها. بهذه الطريقة، يمزج اليوسف بين الأدب والتاريخ، ليخلق تجربة قراءة فريدة من نوعها تجعل القارئ يشعر بأنه جزء من هذا النضال.

 

النضال في وجه النسيان: صراع الهوية والوجود

يتناول اليوسف فكرة الانتفاضة من منظور مزدوج: النضال من أجل استعادة الهوية، والنضال ضد النسيان. في كل سطر من الكتاب، تظهر ثنائية النضال والوجود. فالشعب الذي يُغيب أرشيفه، كأنه يُغيب من الوجود. هذا الكتاب ليس مجرد توثيق للأحداث التاريخية، بل هو تأمل عميق في معنى الهوية والوجود نفسه. كيف يمكن لشعب أن يعيش بلا ذاكرة؟ كيف يمكن لجيل جديد أن يعرف ماضيه إذا كان هذا الماضي مغيبًا عمدًا؟

هنا يبرز الكتاب كأطروحة فلسفية تتجاوز الحدود الضيقة للتاريخ السياسي. يسعى اليوسف إلى إثارة التساؤلات حول مفهوم الذاكرة الجمعية وكيف يتم تشكيل الهوية. إن محو الأرشيف هو محو للوجود نفسه، وكأن الكاتب يصرخ في وجه العالم: “إذا لم تحافظوا على ذاكرتنا، فإننا سنفنى كأننا لم نكن”. الكتاب يرد أيضًا على عدد من الكتاب السوريين والعرب ووسائل الإعلام العربية التي زوّرت الحدث، وجعلت القتيل قاتلًا، في محاولة لإعادة كتابة السرديات بناءً على الحقيقة وليس التضليل.

تأمل في الشخصيات والأحداث: أيقونات المقاومة والصمود

الشخصيات والأحداث التي يستعرضها الكتاب ليست مجرد أسماء في طيات التاريخ، بل هي رموز لصمود شعب بأكمله. اليوسف يعيد الحياة إلى هذه الشخصيات، يحولها إلى أيقونات للذاكرة الجمعية التي تحارب النسيان. نرى من خلال الكتاب كيف أن هؤلاء الذين خاضوا النضال ليسوا فقط مقاتلين يحملون السلاح، بل هم أيضًا شعراء، مثقفون، ومفكرون حاولوا أن يبنوا جسورًا بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والهوية.

ومن خلال هذه الشخصيات، يطرح الكتاب تساؤلات حول معنى المقاومة. هل المقاومة هي فقط مواجهة الاحتلال والاستبداد بالسلاح؟ أم أن المقاومة الحقيقية تكمن في الحفاظ على الذاكرة، في الكتابة عن ماضينا حتى لو حاول الجميع أن يطمسه؟ هنا، يعيد اليوسف صياغة مفهوم المقاومة، ليصبح أكثر شمولية وعمقًا، ليشمل كل من يحاول أن يبقي على جذوة الهوية مشتعلة، حتى لو كان ذلك من خلال الكلمة والقلم.

النقد الاجتماعي والسياسي: تمرد ضد القوى المهيمنة

النقد السياسي في الكتاب ليس مجرد نقد للأنظمة التي قمعت الأكراد، بل هو أيضًا نقد للمجتمع الدولي وللقوى الكبرى التي استخدمت القضية الكردية كأداة في تحقيق مصالحها الخاصة. اليوسف يوجه اتهامًا صارخًا لهذه القوى التي تخلت عن الشعب الكردي، وتجاهلت معاناته، بل وأحيانًا استغلت قضيته لتحقيق مكاسبها. الكتاب هو دفاع شجاع ضد التشويه المتعمد للحقيقة، ويعزز حق الشعب الكردي في سرد تاريخه بلسانه، دون تدخل أو تلاعب من القوى المهيمنة.

عبر هذا النقد، يقدم اليوسف دفاعًا قويًا ضد التشويه المتعمد للحقيقة، ويعزز حق الشعب الكردي في سرد تاريخه بلسانه. هذا الدفاع يتجاوز الجانب السياسي ليصبح أيضًا نقدًا أخلاقيًا للقوى التي استغلت محنة الأكراد وساهمت في التعتيم على قضيتهم.

 

النهاية: إعادة بناء الذاكرة الجماعية

في نهاية المطاف، “الانتفاضة: الأرشيف الكردي المغيب” هو أكثر من مجرد كتاب. إنه محاولة لإعادة بناء الذاكرة الجماعية، لإحياء تاريخ تم طمسه ولإعادة الاعتبار لشعب ناضل لسنوات طويلة من أجل حقوقه. الكتاب يمثل تمردًا على الصمت، ويؤكد على أن الأرشيف ليس مجرد مجموعة من الأوراق، بل هو روح الأمة وذاكرتها.

إبراهيم اليوسف ينجح في خلق نص يتجاوز الحدود الزمنية والجغرافية، ليتحول إلى وثيقة تاريخية وفكرية تنبض بالحياة، وتذكرنا بأن المعركة من أجل الحفاظ على الذاكرة هي معركة من أجل البقاء. الكتاب يثبت أن الهوية لا يمكن أن تُمحى، وأن ذاكرة الشعوب، مهما تم طمسها، قادرة دائمًا على أن تُبعث من جديد. إنه صرخة في وجه كل من حاول إسكات صوت الأكراد، وتأكيد على أن الحرية تبدأ بحفظ الذاكرة، وأن الشعوب التي تعرف ماضيها، مهما كان قاسيًا، تمتلك المستقبل.

في النهاية، هذا الكتاب هو قصيدة عشق للشعب الكردي، لنضاله وصموده، وهو احتفاء بالأصوات التي طمستها آلة القمع والاستبداد، وتأكيدا على أن الحق في الوجود يبدأ من الحق في التذكر، فالذاكرة هي الأساس الذي تبنى عليه الهوية.

 

روائي كردي سوري

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…