(محاولة لجمع الخرزات المبعثرة )

نصر محمد / المانيا

 

(( يا مرسال المراسيل عالضيعة القريبي

خدلي بدربك هالمنديل و اعطيه لحبيبي

عالداير طرزتو شوي ايدي و الأسوارة

حيكتلو أسمو عليه بخيطان السنارة

بخيطان الزرق و حمر و غناني الصبيان السمر ))

#على أنغام هذه الأغنية الجميلة لفيروز، كنت أشرب قهوة الصباح في مقهى قلعة كافيه في مدينة أربيل. كنت غارقا في قراءة رواية ( 99خرزة مبعثرة ) للروائي الكردي حليم يوسف. رواية شديدة الرهافة والخصوصية، مليئة بالألم والدهشة والأحلام عن الأوطان

التي نظل نحملها داخلنا مهما سافرنا وابتعدنا. كان طعم قهوة الصباح يكسب الرواية نكهة أخرى. كانت الرواية تغير الروح كما يغير ” الهيل” طعم القهوة.

#تبدأ الرواية ، بجريمة قتل في ألمانيا ثم تعود الى كردستان الممزقة للتنقل بينهما. يقضي آزاد، بطل الرواية، نصف عمره في وطنه ولا يعيش كما يجب. ويقضي نصف عمره الآخر متذكرا النصف الأول. يهرب من موت بطيء في وطنه، فينتظره موت مفاجئ في الجنة الأوربية.

#عاد بي شريط الذكريات الى عامودا، المدينة التي ولد وكبر فيها بطل الرواية، فتركها مهاجرا وهي لم تتركه حتى في منفاه البعيد.

#أنّ المراسيل أياً كان دربها إلى القلوب فإنها لا تقطعه وحيدةً .

أطرِّز لكِ المسافة الآن،

هذه التي يرتديها الجميع حقيقةً أو مجازا.

كانت المرحومة أمي تجلس لساعات طوال تطرِّز شيئا ً ما. كانت تدندن بأغنية، تطرِّز المسافة التي تجعل الطريق إلى اوربا لا يبعد كثيراً عن مكان جلوسها. كانت تمرر أصابع يدها، جافة الملمس من أثر تراكم السنوات والأيام، وتطعم دجاجاتها في الآن ذاته بيدها الأخرى، شاردة بنظراتها في البعيد مثل غزالة تحاول خداع صيّادها في اللحظة الحرجة. وكانت رغم هذا كله تحدّث الجارات عبر قعدتها أمام باب منزلنا الطيني. تلم الغسيل من على الحبل، وتقلق على الصغار الذين يركضون في الشارع حفاةً. هذا كله مع أنها تجلس في مكانها وتطرّز فقط.

لهذا وأكثر أطرّز لكِ المسافة الآن، لأنها حِنكة، ولأن الزمن الذي لا نستطيع قطعه نبلغه في ثوانٍ بالأغنيات والأماكن التي استحال علينا التواجد بها كلها في آن واحد.

#في تلك الأثناء سألني نادل المقهى، ذاك الشاب الكردي إبن مدينة ديريك، ان كنت أريد شيئا. طلبت كوبا من الكابتشينو. مر أمام ناظري الشريط السينمائي عن عامودا ومناضليها مرة أخرى.

#المرحوم مصلح شكري آغا الدقوري زعيم الدقورية، صاحب الكلمة الواحدة و الهيبة الحاضرة، صاحب المواقف الوطنية الذي وقف في وجه محافظ الحسكة وقائد شرطتها عام 2004 قائلاً: – إن كنتم تريدون إغلاق المدارس و الدوائر الرسمية في عامودا، إفعلوها، لكن عليكم أخذ مراكز شرطتك و مفارز مخابراتك معك. بإستطاعتنا إدارة مدينتنا بأنفسنا.

#قبل عدة اعوام ، كتب أهالي عاموده أو عامودي عريضة إلى محافظ الحسكة مطالبين بخفض الأسعار. عندها أصدر محافظ الحسكة قرارا بكتابة إسم عامودى بألف ممدودة. وعند الرجوع إلى عامودى ذهب أحد الأهالي الى الشيخ عفيف الحسيني وأخبره بما جرى معهم عند المحافظ، فرد عليه الشيخ، بأن هذا المحافظ جاهل ولا يفقه شيئا. وأضاف بأن كل إسم مؤلف من خمسة أحرف في اللغة العربية وينتهي بألف ممدودة، هو إسم أعجمي. وأن عاموده إسم كردي وليس عربيا. وبهذا أكد الشيخ للمحافظ على كردية المدينة .

#عدت مرة أخرى إلى قراءة الرواية، إلى محاولة تتبع آزاد في رحلته الشاقة، في سعيه المحموم إلى الحصول على وطن يحتويه. وطن ممزق بين ثلاث لغات، لغته الأصلية الكردية والعربية والألمانية التي كان قد تعلمها مؤخرا. وعمله كمترجم للاجئين، كجسر يوصل أبناء وطنه الأول بأبناء وطنه الجديد. جاء الموت فجأة ليهدم ذلك الجسر المنيع الذي قضى حياته في بنائه. قضى آزاد نصف عمره حالما بحياة أجمل خارج مكانه الميؤوس منه، وعندما أصبح خارج المكان، بدأ يقضي النصف الآخر من حياته معزولا، وحيدا، محبطا، وعيناه على المكان الذي غادره. كان قد غادر المكان ولم تغادره تفاصيل ذلك المكان إلى آخر يوم في حياته. كم يشبهني بطل الرواية، كم أشبه آزاد، بطل رواية الخرزات المبعثرة. انقطع خيط مسبحة عمره فتبعثرت خرزات عمره في كل الاتجاهات. ها إني أفعل ما فعله آزاد في الرواية. انقطع خيط مسبحة العمر على الطرقات، وبدأت بلملمة سنوات العمر، أقصد خرزات العمر، خرزة خرزة، لعل وعسى أتمكن من جمعها من جديد. سنوات تمضي كخرزات مسبحة خانها الخيط الواصل بينها، لا الخرزات تتجمع بين يدي ولا أتعب أنا من المحاولة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…