قراءةٌ في القراءة

سلمى جمّو
القراءة مؤنّثة، أو لتسمح لي قواعدي اللغوية المتعنّتة أحياناً كثيرة بممارسة غيٍّ صغير وتسميتها بالأنثى. ولأنها أنثى فمعاملتها معاملة القوارير واجب. والترحال على خارطتها وكشف معالم حدودها الملغّمة بالمجازات والأفكار المخفيّة، بشكل شعوري تارة من قبل كاتبها ولا شعوري تارة أخرى، واجب. أو الإبحار فيها بعيداً عن استعمال أدوات الغوص الحديدية المصطنعة بلا روح، والاستعانة بهواء الحدس، لكي تمتلئ الرئتان بها في الرحلة الصوفية تلك.
هي أنثى، المساس بها، دون تطهير العقل من سوابق الأفكار المعلّبة، يجعلك تقع فريسة عدم فهم جغرافيتها وفلسفتها، التي تحتّم عليك أن تأتيها خالياً سوى من الرغبة بالتلذّذ بها، والتمتّع بما تهِبها لك تلك الأنثى من فيضها الفيّاض، الذي لا يعرف البخل، طالما أنت لها مخلص.
القراءة ظاهرة، ظاهرة كانت في الماضي عامة، ومشاعٌ، الجميع بإمكانه الوصول إليها ومزاولتها متى شاء، وكيف ما شاء. هي حالة، وحاجة، وضرورة كانت كالتنفّس والأكل والعلاقات الحميمية. كانت ولا زالت وستظلّ ما كان الإنسان حيّاً على ظهر هذه البقعة التي تُسمى بالأرض.
ليست القراءة تلك الحروف والكلمات والجُمل المتراصّة التي هي حصيلة خبرات الإنسان، والمعاش الذي تعرّض له في حياته، ليست تلك الأوراق ومجموعها المؤلّف في الوحدة التي تسمّى بالكتاب. القراءة كحاجة بشرية وحتى حاجة عضوية قام ويقوم بها الإنسان والحيوانات على حدّ سوء، كلّ حسب الوعي الذي يمتلكه وفي نطاق قضاء حاجاته البيولوجية.
فالإنسان القديم كان يقرأ السماء والغيوم وحركتهما؛ ليفهم منهما حالة الطقس، كما أنه كان يتواصل مع الآخرين من بني جنسه، من خلال الإشارات وقراءة ما يحاول الطرف الثاني قوله، ليستطيع الوصول إلى لغة تواصل تقضي حاجتيهما العضوية والروحية النفسية. كما أنه كان يحاول قراءة لغة الحيوانات الجسدية كلّ يستطيع التواصل معها، وتهجينها وصيدها حسب الحاجة والرغبة في بعض الأحيان – الرغبة في مدّ هيمنته على مَن هم أدنى مرتبة منه – هنا تكون القراءة وسيلة لإشباع رغبات نفسية، والحصول على المتع واللذّة الروحية.
لتتطوّر القراءة مع تطوّر الإنسان، وتصبح عملية مرتبطة باللغة، والتفكير، والتفاعل بين البشر دون الآخرين من الجمادات. ويكون فعل القراءة مرتبطاً بالضرورة بالقارئ، فلا أهمية للمكتوب دون وجود المتلقّي، ولا معنى للمتلقّي دون وجود مادة مكتوبة. لكن وإن كان الأول – المادّة المكتوبة – يؤدّي إلى خلق الثاني – القارئ – فإن الثاني – القارئ – هو العنصر المفصلي والوحيد في إضفاء القيمة للأول – المادّة المكتوبة – وبالتالي جعله أبدياً أو يقوم برميه في سلّة النسيان. وهذا التفاعل الثنائي يؤدّي إلى خلق ظاهرة  تُسمى «القراءة».
القراءة هي تلك المحادثات، التي يُستخدم فيها اللغة كعنصر أساسي للتواصل مع الآخر، هي ذلك الحوار الذي يجري فيه عملية نقل للاوعي الكاتب ووعيه وهواجسه ومخاوفه، وعصيانه، إلى المتلقّي، الذي يقوم بعملية تقمّص وتماهي مع النصّ/ الكاتب، ويطوّر ردّات فعل فكرية وعملية، حسب ما فهم من النصّ المقروء، أو حسب ما يريد أن يفهمه.
وبالحديث عن ردّات الفعل المتعاقبة بعد فعل القراءة يتبارد إلى الذهن السؤال التالي: «ما هي القراءة؟». إن للقراءة أنواع عديدة، منها القراءة المركّزة على الكاتب، أيّ قراءة الكاتب من خلال النصّ الذي أنتجه، والغوص في عالمه الداخلي من خلال اللغة، التي استخدمها، والتي تكون بطبيعة الحال مختلفة عن لغة كاتب آخر، وذلك نتيجة للمُعاش الخاصّ، الذي عاشه، والذي يختلف عن الكتّاب الآخرين، وهو النوع الذي يستهدف الفردية المتواجدة في النصّ، وتكون أكثر خصوصية.
ثم هناك القراءة، التي تستهدف النصّ ذاته بعيداً ومنسلخاً عن الكاتب، حيث يكون هدف القارئ البحث في العبارات والأسطر عن الحكمة، والرسالة، والفكرة الكامنة في النصّ والعمل على تقمّصها أو رفضها، حسب رغبة القارئ، وهذا النوع من القراءات تكون ذو طابع دعَوي، توعوي، واجتماعي، كما أن للقراءة جنسيتها أيضاً، وهو نوع آخر للقراءة، فالقارئ حسب جنسيته يُعطي بُعداً وتحليلاً، ويُضيف معنى يعكس جنسيته هو نفسه، فالقارئ الأنثى يُحتمل أنه يقرأ النصّ بروح، وفكر، ووعي أنثوي، لذا يُعطي حكمه النهائي، ويُحمّل النصّ معنى منسجماً مع هويته الجنسانية. كما أن الأمر ينطبق على القارئ الذكر أيضاً، فهو أيضاً يقرأ النصّ من منظار ذكوري، ويطلق أحكامه على النصّ، عاكساً وعيه الذكوري.
القراءة كفعل فكري، والقارئ كفاعل نهِم جائع إلى المعرفة، وسبر غور المجهول المحيط به، كان سبباً في خلق الكثير من النتاجات الأدبية، وكانت جاذبية كلّ نصّ أدبي والإقبال عليه مرتبطاً بالإبهام والغموض المسيطر على النصّ، ذلك أن النص «حمّال الأوجه» هو الأكثر تعرّضاً للقراءة لفهمه وإظهار ما خفي منه، وهنا يؤدّي بالقارئ المطاف إلى الآليات، التي بالإمكان استخدامها لفكّ الشيفرات المتواجدة في لغة النصّ المعروضة عليه.
إن القراءة «التحليلية»، التي قد يعتمد عليه القارئ يؤدّي به إلى فكّ التراكيب إلى كلمات والبحث عن الخيوط الخفية، التي تربط بين هذه الكلمات، كي تؤدّي إلى خلق هذه التراكيب دون غيره، والبحث عن السبب الذي تم اختيار هذه التراكيب على أساسها دون تراكيب أخرى. فعلى سبيل المثال، إن جملة «المطر يجتاح عوالمي»، تتألّف من كلمات: (مطر – يجتاح – عوالمي). النظر إلى هذه المفردات بشكل مفكّك يخبرنا أنه عبارة عن كلمات رائجة، نكاد نستخدمه في حياتنا اليومي بشكل اعتيادي ـ كلّ على حِدةـ، لكن لماذا اختار الكاتب هذه المفردات وجمعها في هذه العبارة ولم يستخدم مثلاً عبارة «الغيث يتسلّل إلى روحي»؟ بغضّ النظر عن أن الجملة الأولى تحتوي على كمّ من مشاعر جيّاشة وهائجة وربما غاضبة، والجملة الثانية أكثر استكانة وهدوءاً، بغضّ النظر عن المعنى الكامن خلف اختيار الكاتب عبارة ما دون غيرها، فإن عملية القراءة والبحث بين سطورها وخلفها يؤدّي إلى خلق نوع من القراءة يمكن تسميتها «القراءة البطيئة»، وهي تسمية تمّت استعارتها من إيغلتون، وهو نوع كان له الفضل في تحليل النصوص الأدبية والغوص في أعماقها.
 لكن هذا النوع من القراءة قد شارف على الهلاك، حسب تعبير إيغلتون؛ بسبب العصر الذي نعيشه وما تفرضه علينا من متطلّبات، والتزامات، وطرق عيش معيّنة من المحال أو الصعوبة أن نتحرّر منها أو ألا نذعن لها. في عصر الاستهلاكية وما تبعتها من سرعة والتركيز على الكمية دون التركيز على النوعية والكيفية، أدّى إلى خلق مفهوم جديد للقراءة وهي «القراءة الاستهلاكية»، التي تعتمد على قراءة المادّة المعروضة بشكل سطحي، وتُحبّذ طبعاً أن تكون قصيرة ومختصرة. هذا الوعي الجديد لمفهوم القراءة قد فرض على الكاتب أيضاً أن يجاري التيار ويقوم بخلق موادّ أدبية (سهلة، بسيطة، سطحية، قصيرة). إن هذه الفقاعة التي يحاول الكاتب أن يلج إليها كي يصل بها عالياً إلى سماء الشهرة، ستنفجر فيه يوماً، ويقع على سطح الخيبة القاسي خاملاً.
لكن بعيداً عن كلّ هذه التعقيدات، وإضافة المعاني الهلامية، ولصق الجملة الرنّانة بظهر مفهوم القراءة، بعيداً عن كل هذا، ماذا لو كانت القراءة فعلاً لأجل القراءة ذاتها؟ ماذا لو تمّت قراءة النصوص الأدبية بعيداً عن كلّ النظريات النقدية وتياراتها؟
إن قراءة النصّ الأدبي باعتباره تفريغاً لشحنات عاطفية فكرية، كانت تعجّ في عالم الكاتب الداخلي، والاقتراب منها، كونها مادّة لم ولا ولن يفهمه القارئ مهما تسلّح بالنظريات الأدبية ومعدّاتها، إن هذه النظرة بإمكانها تحرير مفهوم القراءة من كلّ الأغلال المنطقية والرياضية، وجعلها عارياً سوى من اللذّة الكامنة فيها، والتي نستلذ بها أثناء فعل القراءة إلى الدرجة التي تدفع بنا إلى الصراخ من المتعة التي نعيشها أثناء فعل الكتابة.
 هل بالإمكان القول بأنه لا ضير من كوننا في بعض الأحيان قرّاء غير حذرين وحذقين، ولا نوّد بالأساس أن نكون كذلك، وجلّ ما نودّه من القراءة هي عيش حالة النشوة أثناء القراءة، أو التي تعقب الانتهاء من قراءة الأثر الأدبي بصمت وسكون، بعيداً عن ضوضاء الفلسفات؟ ربما لا داعي للإمساك بعنق النصّ، ومحاولة قولبته في قالب نحن صنعناه وفق قناعاتنا وعقائدنا ووجهات نظرنا إلى الحياة. ثم إن حقيقة أن النصّ الأدبي المعروض هو فقط نصّ أدبي معروض، دون قراءتها من خلال قراءة كاتبها، أو قراءته من خلاله هو ذاته سيحرّرنا من ذنب الافتراء على النصّ والكاتب، ويمنحنا ثواب السعادة والرضا بعد ممارسة طقس القراءة، القراءة كظاهرة طقساوية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

 

أيام معدودات تفصل بيننا، وبلوغ رحيل كاتبنا الكردي محمد سيد حسين” 1943-2022 “، سنته الرابعة، أي حين يحل علينا حزن ” 12 شباط ” هذا وشجنه وتبعات أوجاعه المتسلسلة. رحل إلى حيث لن يعود أبداً كما هو مسار الحياة، ورحل، وهو بحجم اسمه كاتباً، وبحجم قلبه إنساناً، وهو بحجم روحه ملءَ كردية منزّهة من…

غريب ملا زلال

في اخر احتفال
وعلى تخوم البلاد
كانت المدينة حبلى
ففيما كان الذئب شبق
والرب لا يريد
لهذه الفراشات
أن تساق ļلى الضوء
كان الملك
يفترش أريكة على العرش
وهو يجدد شهواته المفتوحة
على السموات
كان ينبغي
لهذه الوجوه
أن تبتل بالأحمر
حتى يكتمل الاحتفال
بالتراب المراق
على جلباب المكان المقدس
لم يتعرض النهر
إلى ذبح كالآن
منذ جريانه الأول
ولم تكن الوليمة
التي حف بها الخدم
تحت الدالية وقفاً لعيد الدم
ولم يكن البكاء جديداً
على فواصل…

صبري رسول

أطلّت علينا الكاتبة وجيهة عبد الرحمن بنصّ سرديّ، يحمل إشكالية المجتمع المتنوّع دينياً ولغوياً وقومياً، معنونٍ بـ «لالين» مع عنوانٍ فرعيّ مكمّل «حدث أن تزاوجت دور العبادة» صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 2016م. تتضمن الرّواية فصلين، الأول غير معنون ومؤلف من ثلاثة عشر مقطعاً مرقماً، الثّاني معنون بـ«لالين… سليل نهايات الحروف»…

ناشرون فلسطينيون| رام الله
مقدمة:
كتاب “سر الجملة الاسمية” (الرقمية، 2025) للكاتب الفلسطيني فراس حج محمد يمثّل إضافة نوعية للمكتبة العربية، فهو لا يقتصر على دراسة لغوية بحتة، بل يتعداها إلى تحليل أدبي عميق، ويكشف عن أبعاد جديدة للشعرية العربية. يركز الكتاب على قوة الجملة الاسمية وإمكانياتها الإبداعية، مستعرضاً نماذج متنوعة من الشعر والنثر العربي، والكتاب عمل…