نزار يوسف
لقد تعلم الفنان أن لا يضعف تجاه المواقف والصعوبات في الحياة ، وأصبح على استعداد دائم ليتعلم الدروس ويصقل شخصيته الفنية حتى النهاية ليبني الحياة من خلالها .
فاضت الأغنية من حنجرته الذهبية المتمكنة، تحولت همساته إلى موسيقى، سالت أحاسيسه مع نبرات صوته كسلاسل لامعة من الذهب، فسقت مراحل مهمة من تاريخنا وتاريخ فننا وموسيقانا. كان له رؤية فنية عميقة للواقع سلك من خلالها الطريق الى الخلود. تفتحت براعمه في إحدى القرى النائيه، بين حيطان بيوت قديمة وفي بؤس أزقة قامشلو، المدينة المنسية بسلاسل القوى الأمنية العلنية ومقاسات قوانينها المفروضة الخاصة ، وأيضا ً وسائلها غير المرئية مكبلة بالخوف و الرعب بين حافات جهل الأزمنة. صدح صوته وحضوره مع الأيام بوقار العشق ليروّض لمستمعيه التنهدات والأنغام، إلى أن أصبحت أنغامه وتراتيله من كنوز الأسلاف. أغانيه العابرة للأزمنة وللناس ولحدود الوطن المجزأ، لذا تفوَّقَ على أكثرية الفنانين من جيله، محمد شيخو لا يزال جالسا ً على عرشٍ الأغنية الوطنية بشموخ لا يُطاله منازع. انغمس فناننا في أحاسيسه وعواطفه ليفتح آفاقا ً أمام البحث عن الذات والشعور بالوجود و الكينونة. رسم لنا بأغانيه المختارة والدالة على اسم وخريطة الوطن، نَذَرَ حياته وصوته لشعبه، لمجد كوردستان الجريحة. إطلالته الفنية كانت تنير كاشراقة من أعالي قمم الجبال، توقد من صحته وصوته لتضيء ظلام الليل المفروض على بني جلدته ووطنه الجريح.
لقد كانت لأغانيه عبر اكثر من خمسة عقود تأثير مدهش، يدغدغ مشاعر الناس الجريحة، يجمعهم كلماته الموزونة والمتراصة مربوطة بأوتار لحنية مبنية بهندسة فنية، تعًبر عن الوطن الممزق والقضية الجريحة حتى العظم والشعب مفكك، متناثر عبر القارات، مع ذلك تبقى رسالته رابطا ً متماسكا ً وقويا ً لهم. المذهل إن معظم المستمعين والمعجبين لصوته من الأجيال التي تلته، لم يعاصروه أويشاهدوه شخصيا ً وهو يؤدي ملاحمه الغنائية ولكنهم معجبون لغنائه، هذه ظاهرة وميزة نادرة لم يحالف إلا ما ندر من الفنانين. لقد حالفنا الحظ كجيل ذلك الزمن وما بعده، أن نراه ونعايشه مع عدد كبير من الفنانين ونخبة من المغنين، مع مرور الزمن غاب أكثريتهم وأفل نجمهم عن الساحة الفنية، ولم يعد يُسمع أغاني بعضهم إلا القليل كعدد أصابع اليد أو أقل.
كان أحد أجمل الأصوات المتمكنة من أداء أية أغنية، فكان يؤديها لحنا ً وكلماتاً ً بتفوق، وهو الفائز دوما ً في ذلك المنحى ليخرجها في أبهى حلة. صوت شجي، مميز ورائع، اجتمع مع الكلمات المختارة والألحان المتناسقة، جمل موسيقية جميلة تتطابق مع جملها الشعرية وصورها الفنية، هذا ما أوصلنا إلى نتيجة، إن الإبداع المتكامل الأركان في صناعة الأغنية الخالدة تشبه المعجزات، غير مملة في تكرار الاستماع إليها على مر الزمن من الماضي إلى الحاضر و إلى باب المستقبل. هكذا التقى و يلتقي الجمال و الإبداع مع متعة الإستماع لخرير النهر الخالد لدى الآذان السليمة و القلوب النابضة.
تأقلَمَ هو والعديد من أبناء الكورد المبدعين في حياتهم مع ظروف القهر التي خلقتها وفرضتها الأنظمة المحتلة لكوردستان، ولم يرضوا بالقوقعة التي أدخلوهم فيها, ولم يقلدوا الطبيعة المفروضة عليهم أو تكرارها، لذا حاول هو باجتهاد وتحت قسوة الظروف دون كلل، بابداعاته في استكمال النقص الذي خلقته ظروف الإضطِهاد وحلقاتها اليومية المتكررة, وكسر تلك القيود المألوفة والمفروضة، نحو عالم حر و متجدد. على رغم من مرور هذا الكم من السنين(أكثر من 36 سنة)، مازال يعيش متجددا ً بأغانيه وآهاته الوطنية المعبرة برنين صوته الخالد.
نحن مدينون لتلك القامة الموسيقية الكبيرة، إنه قصة من قصص الزمن الجميل نتذكره دائما ً في زمن غير زمنه لأنه تجاوز عصره ومن عاشروه بالتزاماته القومية.