مفهوم العشق بين نزار قباني وبابلو نيرودا

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعْتَبَر الشاعرُ السوري نِزار قَبَّاني ( 1923 دِمَشْق _ 1998 لندن ) أَحَدَ أبرز وأشهر الشُّعَراء العرب في القرن العشرين ، وَهُوَ أكثرُ شُعراء العربية إنتاجًا وشُهرةً ومَبِيعًا وجَمَاهيرية ، بسبب أُسلوبه السَّهْل المُمْتَنِع ، وشَفَافيةِ شِعْرِه ، وغِنائيته ، وبساطته ، وسُهولة الوُصول إلى الجُمهور ، مِمَّا جَعَلَه يَحْظَى بِشَعبية واسعة في العَالَمِ العربي .
أَصْدَرَ أَوَّلَ دَواوينه عام 1944 ، بِعُنوان ( قالتْ لِيَ السَّمْراء ) ، وَقَدْ نَشَرَه خِلال دِراسته الحُقُوق ، حَيْثُ قامَ بطبعه عَلى نَفَقَتِه الخَاصَّة ، وَقَدْ أثارتْ قصائدُ دِيوانِه الأوَّلِ _ الذي ضَمَّ قصائد جريئة في الغَزَلِ والتَّغَنِّي بِجَسَدِ المَرْأةِ ومَفَاتِنِهَا _ جَدَلًا واسعًا ، وَذَاعَ صِيتُهُ بَعْدَ نَشْرِ الدِّيوان كَشَاعِرٍ إبَاحِيٍّ . وَقَدْ هُوجِمَ مِنْ قِبَلِ الشَّرائحِ المُحَافِظَةِ التي اعْتَبَرَتْهُ شِعْرًا إبَاحِيًّا هَدَّامًا . والصَّرَاحَةُ الجِنْسِيَّةُ في البيئة الدِّمَشْقِيَّة المُحَافِظَة كَانَتْ تَعَدِّيًا واضحًا على العاداتِ والتقاليدِ والقِيَمِ، لَمْ يَجْرُؤْ عَلَيْهِ سِوَى شَابٍّ صَغِير السِّنِّ .
يَقُولُ قَبَّاني بأسى عَمَّا جَرَى حِينَ صُدور ذلك الدِّيوان: ” أَحْدَثَ وَجَعًا عَمِيقًا في جَسَدِ المَدينةِ التي تَرْفُضُ أنْ تَعترفَ بِجَسَدِهَا أوْ بأحلامِها، لَقَدْ هَاجَمُوني بِشَراسةِ وَحْشٍ مَطْعُون ، وكانَ لَحْمِي يَوْمَئِذٍ طَرِيًّا ” .
وفي هذا الدِّيوانِ ، تَتَعَدَّد الأصواتُ الشِّعْرية ، وتَتكاثرُ الاتِّجَاهاتُ الوِجْدانية والحِسِّية ، والقَصائدُ تَتَرَاوَحُ في خِطَابِهَا بَيْنَ العَاشِقِ وَالعَاشِقَةِ ، بَيْنَ البَغِيِّ والفَتَاةِ الضَّحِيَّةِ ، بَيْنَ مُتَسَوِّلِ المُتعةِ العابرةِ وَالواقعِ الهَشِّ الذي قَدْ يُفْضِي لاستجداءِ العاطفةِ .
إحدى قَصائدِ الدِّيوانِ بِعُنوانِ ( وَرَقَة إلى القارئ ) يَقُولُ فِيهَا قَبَّاني : ” شِرَاعٌ أنا لا يُطِيقُ الوُصُولَ / ضَيَاعٌ أنا لا يُرِيدُ الهُدَى ” . هَذا البَيْتُ الشِّعْرِيُّ يُمَثِّلُ البِطاقةَ التَّعريفية الأُولَى للشاعرِ السُّوري في بِدَاياته ، بِمَا يَحْمِلُه مِنْ رَفْضِ الشَّبَابِ وثَوْرَتِهِ وتَمَرُّدِهِ وَعُنْفُوَانِه . كما أنَّ قَصائدَ الدِّيوانِ تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى المَشاعرِ الجَيَّاشَةِ والعَوَاطِفِ الفائرةِ للشَّابِّ الذي يَعِيشُ أُولَى سَنَوَاتِ العِشْرِين .
والرَّفْضُ كَانَ مَنْهَجًا شِعريًّا قائمًا بذاته عِند قَبَّاني في كُلِّ مَراحلِ حَيَاتِهِ الشِّعْرِية ، وَلَمْ يَكُنْ شُعورًا عابرًا، والتَّمَرُّدُ كَانَ سِياسةً لُغوية في جَميعِ كِتاباته الشِّعْرية والنَّثْرية، وَلَمْ يَكُنْ إحْسَاسًا وَلِيدَ الصُّدْفَةِ . أي إنَّ الرَّفْضَ والتَّمَرُّدَ شَكَّلا هُوِيَّةً وُجوديةً دائمةً ومُستمرة للشَّاعِرِ الذي سَيَطْغَى اسْمُهُ ويَنتشر صِيتُهُ في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِرِ، لذلكَ آثَرَ قَبَّاني تَربيةَ العَدَاوَاتِ معَ السُّلْطَةِ ، وَلَيْسَ مُجاملتها والتَّقَرُّب إلَيْهَا والانخراط تَحْتَ ظِلِّ شُعراءِ البَلاطِ .
وَقَدْ هَاجَمَ الشَّيْخُ علي الطنطاوي نزارَ قَبَّاني ودِيوانَه ( قالتْ لِيَ السَّمْرَاء ) قائلًا : ” طُبع في دِمَشْق مُنْذُ سَنَة كتاب صغير ، زاهي الغِلاف ناعمه ملفوف بالورق الشَّفَّاف الذي تُلَفُّ بِهِ عُلَبُ الشُّكولاتةِ في الأعراس ، مَعْقُود عليه شريط أحمر كالذي أوجبَ الفرنسيون أوَّلَ العهد باحتلالهم الشَّام وَضْعَه في خُصورِ بَعْضِهِنَّ لِيُعْرَفْنَ بِه ، فيه كلام مَطبوع على صِفَة الشِّعْر ، فيه أشطار طُولها واحد ، إذا قِسْتَهَا بالسنتمترات ، يَشتمل عَلى وَصْفِ مَا يَكُون بَيْنَ الفَاسقِ القَارحِ ، والبَغِيِّ المُتَمَرِّسَةِ المُتَوَقِّحَة ، وَصْفًا واقعيًّا، لا خَيَال فيه ، لأنَّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخَيَال، بَلْ هُوَ مُدَلَّلٌ ، غني ، عزيز على أَبَوَيْه ، وهو طالب في مدرسة ، وَقَدْ قَرَأَ كِتَابَه الطلابُ في مدارسهم ، والطالباتُ ” [ مجلة الرِّسَالة ، العدد 661 ، 4 آذار ( مارس ) 1946 ] .
وكما يَظْهَر اسْمُ الشاعر نِزار قَبَّاني وديوانُه ( قالتْ لِيَ السَّمْرَاء ) في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِر ، يَظْهَرُ اسْمُ الشَّاعر التشيلي بابلو نِيرودا ( 1904_1973/ نوبل 1971) في الشِّعْرِ الإسبانيِّ المُعَاصِر وَدِيوانُه ( عِشْرُون قصيدة حُب وأُغْنِيَةٌ يائسةٌ / 1924 )، وَقَدْ أثارَ الجَدَلَ بسبب مُحْتواه الجِنْسِيِّ ، لا سِيَّمَا بالنَّظَر إلى سِنِّ المُؤلِّف المُبَكِّرَة جِدًّا . وَيَعْتَبِرُهُ النُّقَّادُ أشهرَ دِيوان شِعْري في اللغة الإسبانية ، بَلْ إنَّهُ أكثر الدواوين انتشارًا ومَبِيعًا في تاريخ هذه اللغة على الإطلاق .
يَنْتمي هَذا الكِتَابُ إلى فَترةِ شباب نِيرودا ، وكثيرًا مَا يُوصَف بأنَّه تَطَوُّر واعٍ لأُسلوبِه الشِّعْرِيِّ ، مُتَجَاوِزًا القَوالِب الحَدَاثية السائدة التي مَيَّزَتْ أعْمَالَه السَّابقة . ومعَ أنَّ القَصائد مُسْتَوْحَاة مِنْ تَجَارِب نِيرودا العاطفية الواقعية في شبابه، إلا أنَّ الكتاب لَيْسَ مُهْدى لحبيبة واحدة فقط .
والشاعرُ يَمْزُجُ الصِّفَات الجَسدية لِمُخْتَلَفِ النِّسَاءِ في شَبَابِه لِيُشَكِّلَ مِثَالًا لِلْحَبيبةِ ، لا يُشير إلى أيِّ شخص مُحَدَّد، بَلْ يُجَسِّد فِكرةً شِعريةً بَحْتَة عَنْ حَبيبته . وَقَد ابتعدَ نِيرودا عَن الطُّمُوحِ الشِّعْرِيِّ والبَلاغَةِ الرَّفيعةِ التي سَعَتْ إلى تَجسيدِ أسرارِ الإنسانيةِ والكَوْنِ، وَاقْتَرَبَ مِنَ البَسَاطَةِ والعَفْوِيَّةِ ، حَيْثُ تَتَمَيَّزُ مُفْرَدَاتُ الدِّيوانِ بالسُّهُولَةِ ، فَهِيَ تَنْتَمِي إلى نِطَاقِ اللغة الأدبية التقليدية المُرتبطة بالرُّومانسية والحَدَاثة . وهَذا الدِّيوانُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَه ذَا طَابَعٍ حَزين ومُؤلِم بَيْنَ أعمالِ نِيرودا ، فَقَدْ عَاصَرَ الشاعرُ التشيلي مُعْظَمَ الحُروب والأحداث التي عَصَفَتْ ببلاده وبالعَالَمِ خِلال القَرْن العِشْرين .
وَمِنْ أبرزِ الأحداثِ التي تَرَكَتْ جِرَاحًا غائرةً في نَفْسِه ، مَقْتَلُ أو انتحار صَدِيقِهِ الرَّئيس التشيلي المُنْتَخَب آنذاك سَلْفادور أليندي داخل القَصْر الرئاسي عام 1973 ، الذي أطاحَ بِهِ قائدُ الجَيْشِ أُوغستو بينوشيه . وَقَدْ تُوُفِّيَ نِيرودا بَعْدَ مَقْتَلِ أليندي ببضعة أيام، وكانَ آخَرُ الجُمَلِ ، وَلَعَلَّهَا آخِرُ جُملة في سِيرته الذاتية ( أعترفُ بأنَّني قَدْ عِشْتُ) : ” لَقَدْ عَادُوا لِيَخُونوا تشيلي مَرَّةً أُخْرَى ” .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

Ebdilkerîm Resul

 

ديرك لها بصمات لامعة في سجلها الأدبي والوطني وشخصية اليوم هو المربي الفاضل الأستاذ القدير عدنان بشير الرسول تولد ديرك 1961 نشأ وترعرع في كنف أسرة عريقة

درس الابتدائية بمدرستي خولة بنت الازور ومدرسة المأمون الريفية بديرك

والاعدادية والثانوية بثانوية يوسف العظمة وحصل على الثانوية الأدبية ١٩٨٠

ودخل كلية الحقوق بدمشق وتركها وهو بالسنة الثالثة

تعين معلما وكيلا…

خالد حسو

الذي ينهض فينا مع كل خيبة، ويصفعنا مع كل تكرارٍ للماضي:
هل نحن مؤمنون حقًا بالتغيير والتطوير؟
أم أننا نكتفي بترديد شعاراته في العلن، ثم نغلق عليه الأبواب في دواخلنا؟

التغيير ليس رفاهية فكرية، ولا نزهة في ممرّات القوة،
ولا يُقاس بسلطة الحاكم ولا بعدد الواقفين في الصف.
هو في جوهره موقف،
صرخة أولى تُقال قبل أن تتجسّد،
وثقة جريئة في…

ماهين شيخاني

 

في قلب الجزيرة السورية، وعلى تخوم الخابور والحدود، نشأت بلدة الدرباسية في ثلاثينيات القرن الماضي لتكون أكثر من مجرد نقطة على الخريطة. فقد تحوّلت خلال العقود التالية إلى ملتقى اجتماعي نابض بالحياة، بفضل ما عُرف بـ”المضافات” – تلك المؤسسات الشعبية التي جمعت بين الضيافة، والحوار، والمكانة الاجتماعية.

المضافة: أكثر من مجلس ضيافة

في التقاليد الكوردية، لم…

غريب ملا زلال

“إن لم تجدني بداخلك، فإنك لن تجدني أبداً”
قول قاله جلال الدين الرومي، تذكرته وأنا أطوف بين أعمال التشكيلي رشيد حسو، بل أحسست أن أعماله تلك تخاطبني بهذه الجملة، وكأنها تقول لي: التفت إلى دواخلك فأنا هناك، وإذا أردت أن تقرأني جيداً اقرأ ما في…