إسماعيل أبو ترابة ومصداقية الجدل مع التشكيل

غريب ملا زلال

كلما فكرت بالكتابة عن أحد أعمال إسماعيل أبو ترابة، كلما أسرعت عدة مكابح توقف همتي وتكسر مهمتي. فإسماعيل نحات يتخذ من أزقة التاريخ حيناً ومن مرجعية الذات حيناً آخر موضوعاً لمجسماته التي تحاكي فلسفة تقارب فهم الحياة، عبر طرق تفضي عن قصد أو دون قصد إلى تأويلات معرفية تشغلك حتى وأنت تبتعد عنها.

كما أنه صاحب أصابع يداعب القوس وقزح بإيقاع يطلق العنان لصياغاته بغنى كل السياقات التي يتجول فيها.
فكانت الحيرة تشغلني كثيراً، ولكن عمله الذي نحن بصدد قراءته، وهو من أعماله الأخيرة، أماتت تلك الحيرة. وعبر تأمل دام أكثر من عدة أيام – وما زالت تفعل فعلها برؤياي – أوقفني عمله هذا. عمل يبلغ سوية النصوص التي تقودك نحو منتج جمالي وبوعي جمالي، فهو يؤكد مصداقية الجدل مع التشكيل، مع محاولته الانشغال بفعل الاغتراب القائم على البعد الرابع، والذي يعطي لأبي ترابة كحاضن مميز لمقاييسه غير المحدودة بساتر لوني ولا بحاجز زمني.

ولهذا نراه يحرر كل حبال وعيه، وهذا ما يدعو إلى حضور وقفز عدة سبل أمام ريشته، التي تتقن كل مفردات التشكيل.
فيرمي أبو ترابة وجهاً في منتصف العمل المنتج كوسيلة تحفيز بين ما هو مبحر وما هو منتج من جهة، وبين ما هو منتج والمتلقي من جهة ثانية، وذلك بإحاطة تكويناته بمقولات هي نوافذه للإبحار مع أشرعته، رغم الوجود الهائل من القيم الجمالية التي تبحر بدورها مع تلك الأشرعة.

فأبو ترابة هنا يتجاوز تلك الرؤية الولودة من تكريس بؤرة العمل على أساس لا ينفصم من عودته إلى الذات، يتجاوز إلى خلق قيم نبيلة بتجليات عاشق مبحر في عيون من يحب، دون أن يعاني أي عقبات ولا أي ويلات. فهو يرتاد حواف الحكاية بترتيب تكاملي، ثم إلى المتن بتأنق مفترض، حيث الوجود الحكائي الجمالي الذوقي الذي يحيلك إلى كم من تشكيل معطيات متخيلة بنمط يتعلق بصوت الفنان داخل عمله.

وكان من الممكن لأبي ترابة ألا يقتصر على الجانب الوصفي، حين حاصر منجزه هذا بهالات عريضة من معايير عملية تحمل مفاهيم تتأرجح بين اللجوء إلى التحليل في إطار عملية الاستعراف، وبين ما هو ممكن كعناوين غير اعتباطية أو حتى ما يمكن تسميته ضابط إيقاع لعمله، وفق توثيق العلاقة وبحميمية عالية ما بين اللون والخط، دون الوقوع في تجليات الموضوع.

فهو هنا يكسر الرومانس بإنتاج الفعل الضمني للعمل، الذي يعول عليه في الاستفادة من كل المداخلات (اللونية خاصة)، بما فيها تلاشي الأفق المطابق لإحداثيات خلق العمل. فأبو ترابة، وفي علاقاته بأحوال وشروط تولد العمل، يضع كل دلالات مقولته بمعناها الشامل في توكيد ملامح العمل. تلك الملامح التي تنأى في الانطلاق والنزوع بين الشوائب التي قد تخالطه.

وبهذا يحتفي أبو ترابة بالتتابع الدال منذ الوهلة الأولى، في غوص عمله مع الاستهلال الزمني في هيكلية المنتج (بفتح التاء)، عبر مقياس داخلي يستجيب لكل المواجهات المحتملة، وعلى نحو أخص الإيجابية منها في سياقاتها المتنوعة
(التكوينية المكثفة، حماية النزعة البحثية، محايثة علائق التركيب الفني بالخلفية… إلخ).
وضمناً السياق الذي يجعل العمل، وفي منظوره الجمالي، إطاراً مرجعياً يعادل إبداعه في سياقه الخَلقي.

وقد استعان أبو ترابة بمقولات نظرية التعبير، ضمن تأثره بأسس قائمة على الممكن كأساس لمعياره القيمي، مع الحفاظ على نوع ما من المجاورة ما بين البني في تدرجاته، وما بين الماء في غفرانه لأزرقه. وهذا بحد ذاته يشكل لأبي ترابة فاصلاً انعطافياً في لغته التجريدية، وقد تكون نقلة ضمن نظام نهضوي لتجربته العالية القيمة، وبتطور يصل بجهد تراكمي إلى أفقه.

وبتمايز حقيقي، يدخل أبو ترابة خطابه التشكيلي خلف ستارة ليس غير المتلقي الفطن قادر أن يمزق تلك الستارة، لتنكشف له كل تلك الكنوز الراحلة في تكويناته.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…