إدوارد سعيد

محمد إدريس*

 

في عالم تتشابك فيه الثقافة بالقوة، والهوية بالمنفى، يبرز اسم إدوارد سعيد كواحد من أعظم المفكرين في القرن العشرين، لا بفضل مكانته الأكاديمية فحسب، بل لأنه ظل طوال حياته ضميرًا ناطقًا باسم المقموعين، وصوتًا حرًّا لا يساوم.

ولد إدوارد سعيد في القدس عام 1935 لعائلة فلسطينية مسيحية، لكنه سرعان ما انتقل إلى القاهرة ثم إلى بيروت، قبل أن يشد الرحال إلى الولايات المتحدة حيث عاش وتعلم ودرّس حتى وفاته في نيويورك عام 2003. هذا الترحال المبكر جعله يشعر دائمًا أنه “خارج المكان” — وهو العنوان الذي اختاره لسيرته الذاتية، التي تمثل واحدة من أعمق ما كُتب عن تجربة المنفى والهوية الممزقة.

الاستشراق: تفكيك أسطورة التفوق الغربي

جاء كتابه الأشهر “الاستشراق” عام 1978 كزلزال في الفكر الغربي. لم يكن مجرّد دراسة نقدية للأدب والتاريخ، بل كشفًا للبنية العميقة التي استخدمها الغرب لتشكيل صورة عن الشرق تخدم المصالح الاستعمارية. رأى سعيد أن الغرب لم يكن يدرس الشرق ببراءة، بل يعيد إنتاجه بشكل كاريكاتيري، يصوّره كخاضع، عاطفي، جنسي، وغير عقلاني، مقابل صورة الغرب كعقلاني، متفوق، ومهيمن.

هذا الكتاب لم يُحدث ضجة في دوائر الفكر فقط، بل فتح الباب أمام حقل كامل عُرف لاحقًا بـ”دراسات ما بعد الاستعمار”، حيث أصبح سعيد أيقونة يُحتذى بها في الجامعات الكبرى حول العالم.

المثقف والموقف: الحقيقة في وجه السلطة

لم يكن إدوارد سعيد مفكرًا أكاديميًا منعزلًا، بل كان يؤمن أن على المثقف أن ينحاز للعدالة، لا للسلطة، وأن يقول كلمته بصوت واضح، حتى في أحلك الظروف. انتقد الأنظمة العربية، وهاجم الاحتلال الإسرائيلي بلا هوادة، ورفض اتفاقية أوسلو لأنها فرّطت – في رأيه – بحقوق الفلسطينيين الجوهرية.

ورغم كونه مسيحيًا، دافع عن الإسلام والمسلمين في الغرب، وواجه بحزم موجات “الإسلاموفوبيا” التي تفشت بعد أحداث 11 سبتمبر، مذكرًا بأن الثقافة ليست مبررًا للتمييز أو الكراهية.

المثقف المنفي: وطن داخل اللغة

أكثر ما ميّز إدوارد سعيد هو وعيه العميق بالمأساة الفلسطينية، دون أن يقع في فخ الخطاب العاطفي. لقد جعل من المنفى مساحةً للتفكير، ومن الضياع مكمنًا للبحث عن المعنى. لم يطالب بعودة الفلسطينيين فحسب، بل دعا إلى عدالة تاريخية تعترف بحقهم في الوجود، والكرامة،

إرث لا يموت

توفي إدوارد سعيد بعد صراع طويل مع مرض اللوكيميا، لكن أفكاره باقية. كتبه تُدرّس في جامعات العالم، وصورته لا تزال تُرفع في المسيرات المناصرة لفلسطين، وأصوات كثيرة تتردد على خطاه وهي تردد بأن المثقف الحق لا يتواطأ مع الظلم، بل يفضحه.

في زمن التواطؤ والصمت، يبقى إدوارد سعيد بوصلةً للمثقفين العرب، ووصيةً مفتوحة لنا جميعًا: أن نكتب، أن نقاوم، وأن نكون “خارج المكان”، ولكن داخل الحقيقة.

*شاعر وكاتب فلسطيني.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

في حضرةِ الشعر، حيث يتناسلُ المعنى من رمادِ الكلمات، وحيث يشعلُ الحرفُ فتيلَ الوجود، يولد هذا الديوان: جحيم الأمل.

ليس عنواناً عابراً ولا استعارةً تلقى على عتبة الصدفة، بل هو صرخةٌ تتناوبُ فيها النارُ والندى، وتتعانقُ فيها خيبةُ التاريخ مع شغفِ الإنسان الذي لا يعرفُ الاستسلام.

“جحيم الأمل” انعكاسٌ للروح حين تلقى في أتونِ الأسئلة الكبرى، في…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسَكِي

يَقُولُونَ

: لِمَاذَا تَكْتُبُ قَصَائِدَ حَزِينَةً

دَمْعُ هُمُومٍ مَآسِي رَهِينَةٍ

قُلْتُ : مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ

مَنْ جَمَعَ الْبَشَرَ عَلَى السَّفِينَةِ

قَالُوا : حِكَايَاتٌ رِوَايَاتٌ

قُلْتُ : تَوَارَثْنَا الْعُرَى

نَمْشِي عَلَى أَرْضٍ جَرْدَاءَ قَرِينَةٍ

هَذَا الْوَطَنُ

كُورٌ فِيهِ كُلُّ الْأَجْنَاسِ رَغْمَ أَنِينِهِ

عَرَبٌ أَكْرَادٌ مَسِيحٌ تُرْكْمَانٌ صَابِئَةٌ

بِأَلْوَانِ بَنَاتِهِ وَبَنِينِهِ

مِنْ حَضَارَاتٍ ذَهَبٍ وَصُولْجَانٍ

وَفُرْسَانٍ وَقَادَةٍ

تُخْرِجُ الْأَسَدَ مِنْ عَرِينِهِ

………….

ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ الْمَآذِنِ

دُقَّتْ أَجْرَاسُ الْكَنَائِسِ

وَتَجَلَّتْ أَلْوَاحُ السَّمَاوَاتِ

طَافَتْ وَهَبَّتِ الْفَيْضَانَاتُ

عَلَى الْخَنَاجِرِ…

سيماف خالد محمد

في المطبخ كعادتي كل يوم استيقظتُ على فنجان قهوة أُحاول به أن أفتح عينيّ وأمنح نفسي شيئاً من التركيز قبل أن أبدأ بتحضير الغداء.

بينما كنتُ منشغلة بالطبخ أفتح هذا الدرج وذاك، دخلت أختي مايا تحمل لابتوبها جلست أمامي، فتحت الجهاز لتعمل عليه وكأنها أرادت أن تؤنس وحدتي قليلاً وتملأ صمت المطبخ بأحاديث خفيفة.

لم…

فراس حج محمد| فلسطين

تثيرني أحياناً في بعض الكتب عتباتها التمهيدية، من الغلاف وتصميمه، وما كتب عليه في الواجهة وفي الخلفية (التظهير)، والعتبات النصيّة التمهيدية: العنوان، والإهداء، والاقتباس الاستهلالي، وأية ملحوظات أخرى، تسبق الدخول إلى عالم الرواية أو بنيتها النصيّة.

تقول هذه العتبات الشيء الكثير، وتدرس ضمن المنهج البنيوي على أنها “نصوص موازية محيطة”، لها ارتباط عضوي…