عبدالجابر حبيب
منذ أقدم الأزمنة، عَرَف الكُرد الطرفة لا بوصفها ملحاً على المائدة وحسب، بل باعتبارها خبزاً يُقتات به في مواجهة قسوة العيش. النكتة عند الكردي ليست ضحكة عابرة، وإنما أداة بقاء، و سلاح يواجه به الغربة والاضطهاد وضغط الأيام. فالضحك عنده كان، ولا يزال يحمل في طيّاته درساً مبطناً وحكمة مموهة، أقرب إلى بسمةٍ تخفي غصّة.
تماماً كغصة رجل في السليمانية عندما سأله أحدهم: هل ستنتخب فلاناً؟
فرد: نعم، سأنتخبه كما فعلت سابقاً، فقد وعدني بالكهرباء منذ عشرين سنة… وأريد أن أرى كم سنة أخرى يحتاج ليشعل المصباح.
سمع الحوار صديقه من روج آفا، فبكى، عندما سأله السليماني: لماذا تبكي
فأجاب:سأموت ولا اجد الكهرباء في روج آفا.
(بتصرف)
جذور الطرفة في الذاكرة الشعبية:
لا يمكن الحديث عن الطرفة الكردية دون أن يطلّ ملا نصرالدين بعمامته الشهيرة وحماره العنيد. هذا الحكيم الساخر الذي جاب الثقافات الإسلامية حتى وصل إلى الكرد بملامح محلية، وتحوّل إلى عشرات النسخ: بهلول زاني، ملا مجبور، كيچلوك… شخصيات تتلاعب بالكلمات، و تفحم الأغنياء، والولاة بضحكة مباغتة.
طرفة منسوبة إلى ملا مجبور:
سأله أحدهم: لماذا لا تتوقف عن السخرية وأنت شيخ معمم؟
فأجاب: لو توقفت عن الضحك، لانفجرت دموعنا.( بتصرف)
وظيفة الطرفة في المجتمع:
النكتة عند الكردي مجلسٌ صغير للتعليم. تُروى في الديوان العشائري، وفي السوق بين البائع والشاري، وفي المقهى حيث يتناقلها الشيوخ والشباب. هي جسرٌ يوصل بين اللهجات والمناطق، ولغة ظلّ تُقال حين لا يُقال شيء.مثل هذه الطرفة…
1-
قيل لرجل كردي: لماذا تصفق في كل خطاب؟
قال: أصفق لأن التصفيق لا يُحاسبني عليه أحد… أما الكلام فقد يقطع رزقي. (بتصرف)
2-طرفة شعبية:
جاء رجل إلى السوق يسأل عن دواء يطيل العمر.
فقال له العطار: نعم، عندي دواء يطيل العمر، لكنه باهظ الثمن.
فسأله الرجل: وما ثمنه؟
قال العطار: ثلث عمرك!
فرد الرجل: إذن. أنت تبيعني الموت لا الحياة؟
(بتصرف)
كيف يستقبل الكردي النكتة؟
الكردي لا يضحك على أي شيء، فهو يزن النكتة كما يزن الذهب. النكتة الجيدة عنده لا بد أن تحمل معنى، أن تترك وراءها أثراً: إشارة إلى بخل، نقدٌ لسلطة، أو كشف لمفارقة حياتية. لذلك يقال إن الكردي حين يسمع النكتة، يبتسم بعينيه قبل شفتيه.
طرفة من مجالس الريف:
قال أحد الفلاحين لجاره: ماذا تفعل لو أمطرت السماء ذهباً؟
فأجاب الآخر: سأفتح مظلتي… أخشى أن يصدأ قلبي من الطمع. (بتصرف)
الطرفة في الفنون والآداب
الصحافة الساخرة: مجلات مثل Tewlo وPînê، ثم Golik وZrîng، كانت فضاءً للنقد السياسي والاجتماعي عبر الكاريكاتير. الضحك هنا لم يكن للتسلية فقط، بل لإشعال الوعي. مثل هذه الطرفة
قال السياسي وهو يخطب:
“أقسم أنني لا أملك شيئاً!”
فأجابه أحد الحاضرين: صحيح، لا تملك سوى الشعب كله. (بتصرف)
ففي المسرح والتلفزيون: من خشبات المدن إلى برامج الكوميديا، حيث يسرد الممثلون يوميات المواطن العادي بلغة ساخرة، تجعل الجمهور يرى نفسه ويضحك على مآزقه.
إلى الأدب الذي استمر حضور المفارقة والتهكم فيه ، لكن الشعراء كثيراً ما تركوا المهمة للصحافة الساخرة والقصص الشفوية التي تحافظ على البُعد الأخلاقي والوعظي في النكتة.
قال أحدهم عن أحد الولاة: “يصيح في الصباح ليوقظ الناس، لكنه نفسه يظل غارقاً في النوم عن حاجاتهم.” (بتصرف)
الدور السياسي والثقافي والاجتماعي
سياسياً: الطرفة صارت ملاذاً لقول المحظور. عبر الكاريكاتير والمسرح الساخر، وُجّه النقد للسلطة دون مواجهة مباشرة.
عن تغيير الحكام:
سُئل كردي: من أفضل حاكم مرّ عليكم؟
قال: الحاكم الراحل.
– (باستغراب ) الحاكم الراحل!
قال:،لأنه لا يستطيع أن يظلمنا بعد الآن!
(بتصرف)
ثقافياً: النكتة هي خيط يربط بين الماضي الشفهي والحاضر الرقمي؛ من ملا نصرالدين إلى مقاطع «الستاند أب» على يوتيوب.
اجتماعياً: الطرفة أداة لامتصاص التوترات اليومية، ولحماية الجماعة من الانقسام، ولإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع بلغة أبسط وأخف.
وأخير:
النكتة عند الكردي ليست هروباً من الواقع، وإنما مكرٌ جميل لمواجهته. من نوادر الملا إلى سخرية طالباني، ومن المجلات الساخرة إلى مقاطع الكوميديين على الإنترنت، ظل الضحكُ الكردي يُعلّم كما يُسلي، ويُربّي كما يُفرّج.
إنه ضحك يُضمّد الجراح بالملح، لكنه في الوقت ذاته يجعل الألم محتمَلاً، ويحوّل الغصّة إلى ابتسامةٍ حكيمة، لا تزول.