أحمد مرعان
في المساءِ تستطردُ الأفكارُ حين يهدأ ضجيجُ المدينة قليلًا، تتسللُ إلى الروحِ هواجسُ ثقيلة، ترمي بظلالِها في عتمةِ الليلِ وسكونِه، أفتحُ النافذة، أستنشقُ شيئًا من صفاءِ الأوكسجين مع هدوءِ حركةِ السيرِ قليلًا، فلا أرى في الأفقِ سوى أضواءٍ متعبةٍ مثلي، تلمعُ وكأنها تستنجد. أُغلقُ النافذةَ بتردد، أتابعُ على الشاشةِ البرامجَ علّني أقتلُ بعضَ الوقت، صفقاتٌ، حروبٌ، أزماتٌ تتنافسُ بتواترِ الأحداثِ على قنواتِها، ضيوفٌ من انتماءاتٍ شتّى، تحليلاتٌ متضاربةٌ ممن يجيدونَ فنَّ التلاعبِ بالكلماتِ لغاياتٍ مبيّتةٍ ومكاسبَ آنية، أرقامٌ متضاربةٌ صمّاءُ عن المالِ وعددِ ضحايا أبرياء، تغيبُ الوجوهُ وتختفي القلوبُ وتتلاشى الضمائر.
أشعرُ أن العالمَ يمضي في دروبٍ ضيقة، يتنافسُ على الصفقاتِ راكضًا خلفَ المصالحِ المادية، تاركًا خلفه ما يربطُ الإنسانَ بإنسانيته. المداخلاتُ في الندواتِ الحواريةِ حول العدالةِ والسلام لم تعد تُقنعُ المستمعين، ولم يرَ فيها الناسُ إلا أوراقًا قديمةً تتناثرُ مع الرياح لتزينَ السماءَ في فضاءاتِ الخريفِ الأصفر. هذه الحالةُ أصبحت تُلازمُ العامةَ من الشعب، وكأنها ثقافةٌ موروثةٌ لإثباتِ الذاتِ والولوجِ في مضمارِ السياسةِ البائسة، يبنونَ قناعاتِهم وممارساتِهم على هذا النحو.
في داخلي سؤالٌ لا يهدأ: كيف سيكونُ الغد؟ أستجمعُ مشاعري بصمت، أتحاورُ مع نفسي بسرعةِ مرورِ الشريطِ الإخباريِّ على الشاشة، فيُجيبني بخوفٍ غامض، شيءٌ ما في الأفقِ يوحي أن القادمَ لا يشي بالخير، والتيهُ عنوانٌ دامغٌ لحضارةٍ تقدّمت في حساباتِ البنوك وتراجعت في ميزانِ القيم.
رغم هذا الكمِّ المتشائمِ والمتلاعبِ بالمشاعرِ ومصائرِ العالم، ما زلتُ أتشبّثُ ببصيصِ الأملِ الرفيعِ البعيد، وبومضةٍ صغيرةٍ لم تنطفئ بعد، ربما ينهضُ من بين الركامِ رأيٌ مختلفٌ ليُذكّرَ البشرَ أن الرحمةَ ليست ضعفًا، وأن الكرامةَ ليست ترفًا، وأن العالمَ لا يُبنى بالمالِ وحده، بل بما تبقّى في القلوبِ من رحمةٍ ونورٍ وصفاءٍ ونقاء، بعيدًا عن المصالحِ الآنية.
قالها المفكرُ علي شريعتي:
لا فرقَ بين الاستعمارِ والاستحمار، الأولُ يأتي من الخارجِ والثاني يأتي من الداخل.
فكن على ما أنتَ به مقتنعًا، وإياكَ أن تقولَ للباطلِ نعم مهما كانت المصلحة، ستكشفُها الأيامُ مهما طال بها الزمن. أصبحنا في زمنٍ ننتظرُ المحترمَ كي يخطئَ حتى نُثبتَ للناسِ أنه غيرُ محترم، ونروّجُ نظرتَنا ونظرياتِنا الخبيثةَ لوقوعِهم في مهالكِ التاريخ. وكن على يقينٍ: إذا مات القلبُ تلاشت الرحمة، وإذا مات العقلُ ذهبت الحكمة، وإذا مات الضميرُ ذهب كلُّ شيء.
فكن كما أنتَ، لا كما يريدونكَ أن تكون، سلعةً رخيصةً يُروّجونها وفقَ مصالحِهم وأجنداتِهم الموقوتة…