رستم وسهراب… حين يطعن الأب قلبه بيده

 ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً ولا تاجاً».

تزوّجا ليلةً واحدة، ومع الفجر شدّ رستم رحاله، تاركاً لها سواراً ذهبياً قائلاً:

«إن كان ما في بطنك ذكراً، فضعي هذا السوار على ذراعه، عسى أن يعرفه أبوه يوماً».

 

ولِد الطفل سُهراب، وكبر كأن في عروقه نار أبيه. كان قوياً، مهيباً، لا يعرف الخوف. وعندما أخبرته أمه عن أبيه، اشتعل فيه حلم اللقاء، لا ليتقاتلا، بل ليتّحدا ويؤسّسا مملكةً عادلة تملأ الأرض بالسلام.

لكن القدر لا يصغي للأمنيات. فحين علم الملك التوراني «أفراسياب» بأمره، أضمر في قلبه مكيدة، ودفعه نحو الحرب ضد الفرس، وقال له بخبثٍ:

«ستجد أباك هناك، بين صفوف أعدائك».

 

خرج سهراب يقود جيوشه، شجاعاً لا يُقهر. وفي الضفة الأخرى، كان رستم يتأهّب للمعركة ذاتها. التقى الأب والابن على ساحةٍ واحدة، لا أحد منهما يعرف أن القدر أعمى القلبين عن الحقيقة.

تقدّما نحو بعضهما، وكلٌّ يرى في الآخر خصماً جديراً بالاحترام. اشتدّ القتال، وسقطت الخيول، وارتجفت الأرض تحت وقع السيوف. كان سهراب أسرع وأقوى، كأن الشباب يصفع الشيخوخة، وكاد أن يصرع رستم، لكن الأخير تدارك نفسه بخبرة المحاربين، فطعنه طعنةً نافذة.

 

سقط الشاب على التراب، والدم يسيل من صدره كزهرةٍ حمراء نبتت في غير أوانها. اقترب رستم ليعرف من هذا الفارس الجميل، فرأى السوار الذهبي على ذراعه. تجمّد، صرخ كمن سقط في هوّةٍ بلا قرار، واحتضن ابنه وهو يهمس ببكاءٍ يفتّت الصخر:

«يا ليتني متُّ قبل هذه الطعنة..!.».

فتح سهراب عينيه وقال بصوتٍ خافتٍ يختنق:

«الآن فقط… عرفتُ أبي».

ثم أغمضهما إلى الأبد.

وبقي رستم جاثياً على ركبتيه، ينظر إلى السيف الذي قتل به ابنه، وكأنه ينظر إلى قدرٍ لا يمكن الهروب منه.

منذ تلك اللحظة، لم يعد بطلاً في أعين نفسه، بل رجلاً مكسوراً حمل في صدره جرحاً لا يندمل.

 

رمزية الأب والابن في الأدب الفارسي والكردي

قصة رستم وسهراب، كما رواها الفردوسي في الشاهنامة، تتجاوز حدود الأسطورة لتصبح رمزاً فلسفياً عميقاً في الأدب الشرقي. فـ رستم ليس مجرد بطلٍ أسطوري، بل يجسّد السلطة الأبوية، القوة التي تحمي وتؤذي في آنٍ واحد. أما سهراب فهو صورة الجيل الجديد، الطموح المفعم بالحلم، الذي يسعى لتغيير الواقع، لكن يصطدم بجدار التقليد والخوف من فقدان الهيبة.

 

وهذه الثنائية بين الأب والابن تتكرر في التراثين الفارسي والكردي على حدّ سواء؛ فكلٌّ منهما عانى صراع الهوية والسلطة، بين ماضٍ أسطوريٍ مجيد وحاضرٍ يبحث عن ذاته.

إنّ مأساة رستم وسهراب تُشبه إلى حدٍّ بعيد مأساة الشعوب التي تُحارب أبناءها باسم الشرف أو السياسة، لتكتشف بعد فوات الأوان أن الجرح الأكبر ليس في الجسد، بل في الانفصال بين الأصل والامتداد، بين الذاكرة والحلم.

 

رستم وسهراب… رمزٌ للهوية الكوردية الحديثة

في القراءة المعاصرة، يمكن أن نرى في رستم صورة الأب التاريخي للشعوب القديمة في الشرق، تلك الهويات التي نشأت على القوة والحماية، لكنها خافت من التغيير.

أما سهراب، فهو الجيل الكوردي الجديد، المولود من رحم المأساة، الذي يحمل حلم العدالة والوطن ويصطدم بجدرانٍ بناها التاريخ نفسه.

 

في ميدان الأسطورة، كما في ميدان السياسة، كثيراً ما تتكرر المأساة: الآباء يقتلون أبناءهم دون أن يعرفوا، حين يرفضون أن يسمعوا أصواتهم.

وهكذا، تتحوّل قصة رستم وسهراب إلى مرثية كوردية خالدة، لا عن أبٍ قتل ابنه، بل عن أمةٍ تقتل أحلامها كلما اقتربت من النور.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرة حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.
منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر وفيا لنهجه…

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…

بسم الله الرحمن الرحيم

“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”
صدق الله العظيم

ببالغ الحزن والأسى، تلقى موقع ولاتي مه نبأ وفاة السيدة ستية إبراهيم أحمد دوركي، حرم المرحوم صالح شرف عثمان، ووالدة الكاتب الكوردي المعروف فرمان بونجق هفيركي…