عامودا بيَّارة نار، تضيءُ ثمارها في كهولة الخريف. إلى روح قناديل، مازالت مشتعلة في مقبرة شرمولا.

مروة بريم
لم يسبق لي قطُّ أنْ رأيتُ الجزيرة، تكوَّنت صورتها في ذهني، من قُصاصات مطبوعة في المناهج المدرسية، وما كانت تتداوله وسائل الإعلام. عَلِقت في ذهني صورة سيدات باسقات كأشجار الحَور، يأوينَ إلى المواقد في الأشتية القارسة، تشتبكُ القصصُ المحلّقة من حناجرهنَّ، مع صنانير الصّوف وهنَّ يحكنَ مفارش أنيقة، وفي الصَّيف يتحوَّلن لمقاتلات ماهرات، ينصبنَ الدَّواحيمَ للرّيح كي لا يتمادى الغُبار بتحريك ذيله الأصفر، ويرتبنَ على أطراف الحقول أغمار القمح وحوابينَ الشَّعير.

كبرتُ أكثر وعرفت الجزيرة في حنجرة محمد شيخو، الَّذي أحرق كل تلك الصّور بصوته الشَّجي، في كل مرَّة يصدَحُ فيها من مِصوات آلة التَّسجيل، كان يرمي في بيتنا أعياصاً تنتحبُ شُجيراته، وجديلة ماء أرتمي فيها كوعلٍ متهوِّر، هذا فراتُ يُطلقُ زفرات حارقة من غلاصم حمراء، وهذا دجلة يحتضن سرديات القصب وحكايات السَّفر البعيد، وذاكَ الهزيل جَقجَق يحمل على راحتيه المتشققتينِ، جليلاً وقوراً اسمه خابور، حَبِنَ من مائه المسروق، بعضه حيٌ وكثيره ميت. تنتهي مصفوفة الأغاني وتسكت آلة التَّسجيل، ينسحب صوت محمد شيخو إلى الشَّريط المغناطيسي البُنّي في الكاسيت، ويترك حزناً غريباً يصعبُ وصفه أو السَّيطرة عليه. أقول لنفسي لا، لا يمكن لأرضٍ سعيدة أن تُلقّنَ طنبوراً كل هذا الأسى، وتُحيلَ حنجرة بشرية إلى وذمة حزن.
في قرية اسمها وسائل التَّواصل الاجتماعي، بات الأمرُ أكثر سهولة، عرفتُ مواجع تلك الأرض عن كَثَب، عبر مجموعة من الأصدقاء الكُتَّاب والمهتمين بالشَّأن الثقافي. كنتُ أسمع عن حريق سينما عامودا، دون أن تتسنَّى لي فرصة الإطلاع على تفاصيله، إلى أن قام الأستاذ فوَّاز عبدي عبر متصفحه، بالإعلان عن صدور رواية النَّار، الّتي قام بترجمتها عن العربية للصَّديق الدكتور محمد عبدو نجاري، الَّذي كان من ضحايا الحريق، نجا وكتبَ سيرة النَّار التي التهمت قرابة الثلاثمائة طفل كردي، رغبتُ بشدة في قراءة الكتاب، وسألت الأديب المترجم فواز عبدي عن إمكانية حصولي على الكتاب، فلبَّى طلبي مشكوراً بإرسال نسخة PDF.
بدا غلاف الكتاب ساخناً، أشعرني بتوترٍ كبير وتردّدتُ في لمسه، لكن بي رغبة قويَّة لسماع صوت الكرديات، وحتى عويل الحجر، دخلتُ عامودا في أمسيتها الَّلاهبة مع صديقيَّ، وقبل الإيغال ذكَّرتُ نفسي بالبقاء متّزنة، فإني ذاهبة لتشييع عشرات الجثث الضئيلة المتفحّمة، رغمَ أنَّ التّوقيت نوفمبر الحبيب، قلت لنفسي لا تظنّي أنَّ كل أحمر يتهاوى من السّماء ورقة قيقب، قد يكون جزءاً من قميص، أرغمته النَّار على التخلي عن صاحبه، وهرب إلى الهواء.

دخلت إلى مبنى السّينما ببراءة محمد نجّاري الصَّغير، وبكرديّة فواز عبدي الآسرة والنَّاضجة، وقعتُ في التَّناقض بين رغبتي الشَّديدة في معرفة وقائع الفاجعة، وبين قراءتي الحذرة خوفاً من الاصطدام بصوت طفل يقول ax yadê, فتتجاوب الأمّهات وترتفعَ أصواتهنَّ معاً ha qurban، وتَحول بينهم النَّار.
لم أكترثْ لكيفية اشتعال النَّار، طالما بقيت مضطرمة ولم تهدأ حتى أكلت قلب المدينة. ربما كان ماساً كهربائياً، ربما رعونة أحد االقائمين على إدارة السّينما، بطريقة ما تواطأ القشُّ مع أعمدة السَّقف، كل شيء كان قابلاً للاشتعال حتى عيون لم تقترف صغائر النَّظر، وبدأ السَّقف ينهار واشتعل الصّغار كشموع في قدّاس الموت المباغت، وبدأتُ أحرّك قدمي لاشعورياً، كلّما حاول محمّد تسلق الجثث المتفحّمة لينجو بنفسه، ويطعنني الأملُ الكاذب في روحي، عندما يكتشف محمد أنَّه اعتلى جثة مازالت حيَّة، يغدر الدّخان الكثيف بالصّغار ويسدُّ أمامهم المنافذ، حتى يرتاب محمد ببصيص الضّوء اللجيني في الخارج، ويكتشف أنّه في الاتجاه الخاطئ، ويلقي نظرات خاطفة على الجثث، كأنه في جبهة ساخنة وسقطت عليهم قنابل النَّابالم.

بقيتُ عالقة في الكتاب، أسافر في مستطيلات ورقية صغيرة تئن تحت وطأة مدينة اشتهتها النار في أمسية باردة، مشدودة الأعصاب أحثُّ محمد على الخروج، أتنفّس الصّعداء هيا أيها الفتى اخرج أيها الصّغير، بيد أنَّ كل شيء هيّنُ بالكلام، وحدهم الَّذين عايشوا تلك اللحظات يعرفون المذاق الحقيقي للمآسي. بعدَ لأيٍ ونصف موت، خرج محمَّد وارتمى في بقايا الماء المُراق حول رسغ البئر، وهو ينظر كيف كانت قطع الدهن تفارق جسده وتهوي من جسده نحو الأرض، لم أستطع الصمود أكثر في قراءة سيرة نار متوحشة، كنتُ حينها أرافق محمد حسن علوان إلى ضفة نهر، أقتل في نفسي شيئاً ما بمراقبة قندس خجول، فانسحبتُ من الكتاب بسرعة وفي روحي حروق من الدَّرجة الثَّالثة، وهرعتُ إلى بورتلاند وارتميتُ في نهر ويلامت، حيث كالمعتاد يجلس محمد حسن علوان إلى ضفة النَّهر، يصطاد أسماكاً هزيلة ويراقبُ قندساً يعوم في الماء على استحياء.
على رِسلكَ يا محمد حسن علوان، لستَ وحدكَ تنتمي لمجتمع قندسي، نحن أيضاً أمَّة من القنادس، أنوفنا فطساء من الإيواء إلى الجذوع والظلال، نبني السّدود من سُوق الشّجر، ونحن نعلم أنَّ النَّهرَ سيفيض ويجرف كل شيء، كما فعل في العام المنصرم.
الدكتور محمد عبدو نجاري، كتب هذه الرواية القصيرة بذكاء وفطنة، ولكي يخفف من وطأة الأحداث على القارئ، يصطحبه تارةً إلى المراعي، ويسمعه صوت سقوط الحليب من الضّروع إلى الدّلاء، وتارةً أخرى يُسمعه حكايات طريفة أثناء مكوثه في المشفى للمعالجة.
شكراً كبيرة للأستاذ فواز عبدي على ترجمة هذا العمل الرّائع رغم ما يكتنفه من وجع وألم كبيرين.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نص: حفيظ عبدالرحمن

ترجمة عن الكردية: فواز عبدي

 

جاري الافتراضي كئيب

جاري الافتراضي حزين

جاري الافتراضي يحلب اليأس

يحتسي الوحدة

يبيع الحِكَمَ المكوية برعشة الآلام

بثمن بخس.

 

من نافذة صفحتي

أرى

مكتبه

صالونه

غرفة نومه

مطبخه، شرفته، حديقته

ومقبرة عائلته.

من خلال خربشات أسطره

أقرأ طنين النحل

في أعشاش عقله.

 

جاري الافتراضي

يكتب على جدار صفحته

كلمات مثقوبة بالألم

محفورة بمسامير التنهدات

يمسحها

ثم يعيد…

شيرين اوسي

عندما تكون في الشارع وتحمل في احشاءها طفلها الاول

تتحدث عنه كأنها تتحدث عن شخص بالغ

عن ملاك تتحسسه كل ثانية وتبتسم

يطفئ نور عينها وهي تتمنى ضمه

تقضي في حادثة اطلاق نار

رصاصة طائشة نتيجة الفوضى التي تعم المدينة تنهي الحلم

تموت وهي تحضن طفلها في احشاءها

ام مع وقف التنفيذ

تتحسس بطنها

ثم تتوسل لطبيب المعالج

ساعدني لااريد فقد كامل…

إبراهيم محمود

البحث عن أول السطر

السرد حركة ودالة حركة، لكنها حركة تنفي نفسها في لعبة الكتابة، إن أريدَ لها أن تكون لسانَ حال نصّ أدبي، ليكون هناك شعور عميق، شعور موصول بموضوعه، بأن الذي يتشكل به كلاماً ليس كأي كلام، بالنسبة للمتكلم أو الكاتب، لغة ليست كهذي التي نتحدث أو نكتب بها، لتكتسب قيمة تؤهلها لأن…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…