خوشناف سليمان
في زقاقٍ منسيٍّ على هامش أطراف عامودا. كانت خالة زريفة تسند ظهرها إلى الحائط الطيني. ترقّب الغروب كمن يترقّب رحمة السماء. ليس في البيت إلا كأس من الأرز. و بعض الخضرة. ووجوه ثلاثة صغار أرهقهم الجوع. و لم يجرؤ أحدهم على النحيب.
ذلك اليوم. دخل الضيف.
لم يكن متطفلًا. بل قادمًا ليسأل عن حالها و يسند ظهر الأرامل بثقل الرجال الغائبين. / العم حسو /
رجلٌ ذو نية طيبة. و عينٍ لا تتفحص تفاصيل الفقر بوقاحة.
لكن خالة زريفة ارتبكت.
تاهت خطواتها في المساحة الضيقة بين القدر الفارغ و كبريائها.
كيف تُقدّم شيئًا لا يليق إلا بالضرورات؟
كيف تُخفي الفقر دون أن تخون الصدق؟
راحت تفكر .. تخبز الحيلة في عقلها كما تخبز الخبز في رماد البؤس.
مدّت يدها إلى الأرز القليل. و سلقت الخضار و كأنها تنقذ كرامتها من الموت.
و عندما وضعت كل شيء في الطنجرة. قلبتها.
جعلت الخضرة في الأعلى لتواري غياب اللحم. و لتمنح الطبخة هيئة اكتملت.
و لو بالكذب الجميل.
قدّمت الطبق بثقة من يعرف أن الحقيقة لا تُروى كاملة.
الضيف أكل. تأمّل. فهم.
لكنه لم يقل شيئًا.
اكتفى بابتسامة فيها امتنان. و حزن. و معرفة.
شكرها بحرارة. ثم مدّ يده بالمساعدة.
لا كمن يمنّ. بل كمن يستعير نور الكرامة ليضيء زوايا العوز.
عاد إلى بيته ممتلئًا بما يفوق الشبع.
حكى لزوجته عن امرأة تُدعى خالة زريفة.
عن طبخة بلا لحم.
عن طنجرة قلبت مقاييسه.
في اليوم التالي. كانت زوجته تقف على باب خالة زريفة. لا فارغة اليدين. ولا ممتلئة القلب بالظنون.
حملت معها ما استطاعت من الخير. وقلبًا ممتلئًا بالغيرة مستعدًا للصفح.
وحين شرحت سبب زيارتها. ضحكت خالة زريفة ضحكة هادئة وقالت..
سرّ الطبخة. يا أختي؟ ليس في البهار .. بل في دفن الوجع تحت الخضرة.
دخلتا المطبخ
وهناك بدأت الطنجرة تدور من جديد.
كانتا تطبخان أكثر من طعام.
كانتا تصنعان حكمةً خفية.
قالت: خالة زريفة يا أختي
أن الكرامة لا تُؤكل. لكنّها تُقدّم مع كل وجبةٍ أُعدّت بحبّ و صمت.
و حين عادت الزوجة إلى بيتها. قالت لزوجها ..
تعلّمت سرّ الطبخة .. لكني نسيت اسمها.
ضحك الزوج قال و هو يغمز لها..
. لا عليكِ. سنسميها من الآن فصاعدًا .. المقلوبة.