إبراهيم محمود
تسمية ” الكائن الحي ” تشمل كلَّ ذي نفس وروح. سوى أن هناك تبايناً بين كائن وآخر. ويصبح التباين أوسع، أعمق وأرحب، بما لا يقاس، لحظة التفكير في الإنسان. وحين نقول” إنسان ” يكون العموم. سوى أن الاسم عندما يحل صفة، يكون التمايز قائماً. وعلى طريقة أحدهم: ما أصعب أن يكون المرء إنساناً.اي ذاك المنفتح على الآخرين وعلى نفسه. ولقد كان الصديق الراحل الدكتور شورَش خليل عبدي جديراً بهذا الاسم / اللقب. كان مأهولاً بحياة لا تعنيه هو وحده. وربما كان تميّزه بهذا الحضور الإنساني معجّلاً في رحيله الأبدي.
وفي مفارقة الاسم: يمكن لأحدهم أن يستدعي صفات لها خصوصيتها” شورَش ” بالكردية أي” ثائر “، في المقابل العربي. والثائر يمضي بنا إلى عالم خنادقي، ساحاتي مفتوح، وصراعات وحروب ومجابهات..وإذا لطَّفْنا الكلمة، لرأيناها خلاف ذلك. أعني به أنه كان إنساناً، يعيش حيوية إنسانية تسر عائلته، أهله، أصحابه، ومعارفه، كما كنت أتردد عليه عندما كنت في قامشلو وهو في عيادته، ويتفانى في خدمة الآخرين من خلال اختصاصه طبعاً.
شورش خليل عبدي، هذا الذي أمضى حياة بين قريته ” جاغر بازار- قامشلو ” وأبعد منها جامعياً” بلغاريا ” اختصاص ” أشعة ” ليعيش كرب الغربة اضطراراً كغيره من مئات ألوف مؤلفة من كرده وغيرهم، لتكون حياته محصورة بين ” 10-9/ 1962 و27-11/ 2025 ” اليوم الذي انطلقنا أنا والعائلة من دهوك إلى قامشلو ومن ثم إلى دمشق للمعالجة. يوم حزين محزن لكل المعنيين برحيله الأبدي زماناً ومكاناً.
لا يعود فقدان شخص ما، في مقام الإنسان الفعلي مجرد نقص واحد في حساب مجموع معين من الأشخاص، إنما أكثر من الواحد بكثير، في النوعية، وفي زمان، كزماننا المشهود له بتلوث هوائه، بأكثر من معنى طبعاً، يصعب إيجاد من يمكن مؤالفته، مصاحبته، مصادقته، والإطمئنان إليه، وهو يبتسم لك قبل مصافحتك، ويصافحك والابتسامة تتداخل مع المصافحة الدالة على محب في لقاء محب .
لا يتوقف ذلك عليّ وحدي، ومن خلال علاقات في مدينة، كقامشلو التي تفجع برحيلات مختلفة هنا وهناك، يمكن التذكير بالذين يحملون صفة الإنساني في دمهم وفمهم، في يدهم وغدهم، إن جاز التعبير، في قيامهم وجلوسهم، وما في ذلك من عزاء روحي، ومن قابلية تفاعل مع الآخرين والشعور بأريحية خاصة .
ويمكن قول المطلوب والمفيد وما يكون التذكير به واجباً، وهو أن لقاء إنسان بإنسان، يصبح فاعل تفاؤل، وأهلية تعايش مع الآخرين، وتحمّل الصعاب، طالما أن هناك من يقدّر مثل هذه العلاقات. المحب، كما كان شورش الإنسان، يكون أكثر من حلقة وصل بين متعامل معه وآخرين هو الحاضر في الصميم، وعلى قدْر مصاعب الحياة ومآزقها، حيث الحياة تصبح أكثر حمولة عافية وتقبّل لها نفساً وعقلاً .
وإثْر انفجار الأحداث في سوريا، لم نعد نلتقي، إنما كان هناك تبادل كلمات سلام وتحية، وقد أصبح مغترباً اضطرارياً مع أفراد عائلته في السويد، وكنت أتتبع أخباره عن طريق أبيه المفجوع بفقده الأبدي خليل عبدي، الذي كان السبّاق كثيراً في المكالمات الصوتية، تعبيراً عن طِيب أخلاق، وسماحتها.
شورش كأي إنسان يمكن النظر إليه، وباسم كاسمه، لكن التفريق، كما قلت، ينبني على الرصيد القيمي: في حوزته، ومِن صنع يديه وروحه. لهذا ما أكثر وأكثر من يحملون اسماً كهذا كردياً مثله، إنما تمايزياً ليس مثله محبة روحاً، وكرَم خُلَق .
سمعت بنبأ رحيله، وأنا قادم صحبة عائلتي، من دمشق للمعالجة، حين زرت بيت الصديق أمير عبدالكريم، وهو قريبه، والراحل ابن أخ رفيقة دربه” أم إياد ” وكان عمه الأخ عزالدين هناك، حيث كان يقيم مجلس عزاء له، استجابة لواجبات اجتماعية معتبرة .
ما كان أشد ألم الراحل الصديق شورش، وهو يكابد سطوة المرض العضال، كما علمتُ، وعلي أن أضيف: الألم النفسي المضاعف، حيث أغمضَ عينيه الإنسانيتين، وفارقته روحه الإنسانية، تاركاً جسمه الإنساني، ليودَع ثرىً له، مندفناً في تربته السويدية.
حالة- ظاهرة، تشمل لغات وأمماً، في تشتت وتشتيت للعائلة الواحدة وأكثر، في دوامات حياة لا يحاط بها سرعة وإيلاماً، في ميتات مختلفة، ومآس مختلفة، وحالات نزف روحية مختلفة، على وقْع المصاب الجلل وأشباهه هنا وهناك .
أقدّر أوجاع عائلته فرداً فرداً، أوجاع الأب بالجملة وأخوته وأعمامه وكل الذين لهم صلة به، أوجاع أصدقائه الأهل، ومعارفه في مرتبة الأهل، والموجوعين المصدومين برحيله الأبدي، كغيره، وهم قلة، كما هي الحياة التي نعيشها وتختبرنا إنسانياً دائماً.
سلاماً لروحك وعليك أيها الصديق الراحل في حكم الأبد دكتور شورش.
عزائي العائلي له، لروحه التي أتبصرها في شفافيتها، نسخة من ابتسامته الطيفية النقية، لعائلته، لثلاثيّ أولاده” أفين، هيفي وخوشناف “، لأهله، للمقربين منه، وكل من سلَّم عليه ذات يوم، وجالسه ذات يوم، وحمل من حضوره المباشر، صورة طيفية في المسافة بين محل دفنه السويدي، وقريته جاغر بازار، لشخصه المحب، كما تكون المحبة طبعاً، ليبقى محباً رحّالة في الذاكرة، ذاكرة من يعرف المحبة باسمها ومسمّاها.