نصر محمد / المانيا
-يضم صورا شعرية جديدة مبتكرة ، لغة شعرية خاصة بعناق ، تعانق الأحرف بالابداع من أوسع أبوابه ، انها لا تشبه الشعراء في قصائدهم ولا تقلد الشعراء المعاصرين في شطحاتهم وانفعالاتهم وقوالبهم الشعرية
-مؤامرة الحبر يترك الأثر على الشعر واللغة والقارئ ، يشير إلى شاعر استثنائي ، يعرف كيف يعزف على أوتار اللغة بسلاسة وحكمة وانسياب
-يبدو ديوان مؤامرة الحبر كأنّه دفترُ شقاءٍ شخصي تُقلَب صفحاته تحت ضوءٍ خافت، بحيث يتسرّب من بين سطوره وجعٌ ظلّ طويلاً يبحث عن لغة تليق به.
-في هذه المجموعة لا يظهر الحبر كأداة كتابة فحسب، بل كقوةٍ تتواطأ مع الشاعر وتتمرّد عليه في الوقت نفسه.
إن الحبر هنا يشبه كائناً مشتبكاً مع الأقدار، يحاول أن يكتب النجاة لكنه ينزلق – عمداً أو قسراً- نحو كتابة الخراب.
-يكتب دريعي من الداخل الملتهب للتجربة، لا من حواشيها. ومن هذا الداخل تنفجر النصوص بما يشبه تقريراً ذاتياً عن العطب الإنساني، حيث يتقاطع العشق مع اليتم، والحنين مع الإحباط، والغفران مع شهوة الانتقام.
ووسط هذا الخليط العاصف، يظهر صوت الشاعر كمن يبحث عن نسخةٍ أخرى من نفسه؛ نسخةٍ لم تُهزم بعد، أو لعلّها لم تولد أصلاً.
-بهذا الملمح، تصبح مؤامرة الحبر ليس كتاباً في الشعر وحده، بل سيرة شعورية تكتبها ذاتٌ تستيقظ كل يوم على رماد جديد.
-حاولت من خلال هذين النصين اللتين سأوردهما من كتاب مؤامرة الحبر تمثلان نموذجا متقدّما من الشعر الحداثي الحر، القائم على تفكيك البنية العاطفية والرمزية للذات الشاعرة.
-يعتمد الشاعر على التكرار الإيقاعي والانزياح الدلالي، ليجعل النص أقرب إلى طقسٍ شعائري، تتداخل فيه اللغة بالانفعال. وفي النص الثاني، تبرز النزعة الاعترافية التي تخلط بين الحسية والتصوّف، كقوله:
«ما زلت أشم أصابعي بمن أوسعت وتين الهيام».
-هنا يتقاطع العشق الجسدي مع التماس المطلق، فيتجاوز الشاعر حدود التجربة الشخصية إلى فضاء الوجود والعدم.
-قمت بدراسة وقراءة موسّعة للنصّين (تكوين و ليست لك ) مع الاستشهاد بالأمثلة الدقيقة من النصّين :
- استهلال الرفض : ليست لك بوصفها بوابة الألم
يفتتح النصّان بمنعٍ شديد، بحاجز لغوي يسبق الكلام كلّه:
«ليست لك / إنها ليست لك»
هذا التكرار ليس نبرة غضب، بل نبرة قَطعٍ وجودي.
فالشاعر لا يبدأ من مساحة احتمال، بل من باب مغلق، من منع مُحكم يشي بأن العلاقة – أيّاً كانت – محكومة بالفشل قبل أن يحدث شيء.
إنها جملة تُشبه صفعةَ وعي، تُسقط الحبّ من إمكانية المشاركة إلى حتميّة الفقد.
- الميل الدرامي للنصّ : من الرفض إلى إعلان الجنازة
يتدرج النصّ في حركة داخلية تميل نحو الظلام فبعد الرفض يتكشّف الانكسار، ثم يُعلن الشاعر:
«افتحوا الطريق لجنازتي»
هنا يتحوّل الحبّ إلى طقس جنائزي.
الجنازة ليست حدثاً واقعياً، بل هي موتٌ رمزيّ للذات، واستسلامها لثقل التجربة.
وكأن الشاعر يقول: هذا القلب مات قبل أن يُمنح فرصة للحياة.
هذا الإحساس يتكرر في صور كثيرة:
«مهزومات تتوسّد اليتم» «فهل أرثيك أم أندبك»
إنها لغة تنعى الذات كما تنعى الآخر، وتحوّل القصيدة إلى مرثية مشتركة بين الاثنين.
- معجم الجرح : أسماء الألم بدل أسماء العشق
في كلا النصّين يغيب معجم الحبّ التقليدي، ويحلّ محلّه معجم الذبح والوجع:
«الوجد اللاسع – المنكوب – اليتم – الهزيمة – الكفن – نحسك – كبريتا – قتلتها / قتلتك – الصفيح الصدئ».
إن اختيار الشاعر لهذه المفردات يعني أنّ العاطفة ليست حدثاً مبهجاً، بل قوة طاردة، تبني اللغة على شقوقها لا على اتّساعها.
هذه الكلمات لا تُخفف الألم، بل ترفعه إلى مستوى هوية لغوية.
فالذات في هذه المجموعة لا تُعرّف بالحبّ، بل تُعرّف بالأذى الذي تركه الحبّ.
- الصورة الشعرية : الجسد والقداسة المكسورة
أولاً: الجسد بوصفه ساحة نزيف تظهر صور جسدية متوترة:
«إقضم قلبك من أسفله لأعلاه بهدوء»
«تلثم نحرا معرقا»
«فأثقبت ركنك الأيسر»
هذه صور تعتمد على التشريح الشعري. الجسد ليس رمزاً للحياة، بل فضاءً للجرح.
وبذلك يتخذ النصّان بُعداً وجودياً، يكشف هشاشة الإنسان على مستوى مادته الأعمق: القلب نفسه.
ثانياً: الروحيّ المكسور حيث يتداخل الجسد مع اللغة المقدسة:
«تسترجع تسابيح سجدتك الأولى»
لكن هذه التسابيح لا تأتي كطمأنينة، بل كذكرى مكسورة.
الروح نفسها غير قادرة على النجاة. إنها قداسة فقدت حمايتها. بهذا تكتسب الصورة بُعدين:
– جسدي ينزف
– وروحي لا تسعفه
- الاستحالة العاطفية : علاقة محكومة بالهلاك
يقول الشاعر:
«قلبي لم يعد ينقذه الرتق ولا الأقطاب»
إن هذا الاعتراف يكشف جوهر النصّين:
القلب ليس قابلاً للترميم، بل يتجاوز كل أدوات الإنقاذ.
لذلك لا تبقى أمام الشاعر سوى مفارقة قاسية تتكرّر في أكثر مقاطع النص عمقا:
«فإن هي أقبلت إليك قتلتها
وإن هي أدبرت إليك قتلتك»
إنها قمة الدراما العاطفية: اللقاء هلاك، والابتعاد هلاك. لا نجاة في أي اتجاه.
وهذا ما يجعل هذه النصوص تعبيراً عن الحبّ بوصفه تهديداً وجودياً، لا بوصفه خلاصاً.
- ثنائية النار والدخان: الاحتراق كطريقة للوجود ,النار والدخان والكبريت مفردات متكررة:
«استحضر كبريتا لنحسك»
«إلى أن تمتلئ بالدخان»
هذه الصور تشي بأن التجربة ليست ألماً عابراً، بل احتراقاً مستمراً.
النار هنا ليست قوة هدم فقط، بل قوة كشف، فالاحتراق يعرّي الحقيقة، ويُظهر ما كان مخفياً خلف ستار الرغبة. إنها تجربة تُشبه أن يعيش الإنسان داخل موقد داخلي لا ينطفئ.
- خاتمة النصين: من الفوضى إلى الاستسلام الواعي ينتهي النص الثاني بخاتمة هادئة متعبة:
«استسلام لحظة لحظة , فكل ما حدث كان عفويا
وأنا ما زلت أشم أصابعي بمن أوسعت وتين الهيام…»
إنها ليست نهاية بحث عن حلّ، بل استسلام لفوضى حدثت وحدها.
الذات لم تعد تقاوم، بل تراقب آثار أصابعها على الجرح.
هذا الاعتراف-“كان عفويا”- يكشف أن الشاعر يرى التجربة كقوة خارج إرادته، قوة طاغية، تأخذه كما تشاء.
ثالثًا: الخاتمة : تكشف النصّان من مجموعة «مؤامرة الحبر» عن تجربة شعرية تُكتب من تخوم الألم، لا من طمأنينة التجربة.
-اللغة في هذين النصّين مشبعة بعناصر الرفض، والانكسار، والاحتراق الداخلي.
ويبرز الحبّ بوصفه قوة تدمّر صاحبها، لا لأنها تسعى إلى ذلك، بل لأنها محمولة على قدر من التوتر الوجودي لا يمكن احتواؤه.
-يتقاطع الجسد والروح في صورٍ متوحّدة على الوجع، ويتحوّل القلب إلى بطلٍ مأزوم، عاجزٍ عن الشفاء، فيما يمسك الحبر زمام اللعبة ويقود الشاعر إلى اعترافاته الأكثر ظلمة وصدقاً.
-بهذه العناصر، يقدّم الشاعر فرهاد دريعي نصّين يصلحان أن يكونا مفتاحاً لقراءة كامل المجموعة، لأنهما يجسّدان روحها:
-روحٌ منكسرة، ووعيٌ حادّ بطبيعة الخسارة، ولغة لا تبحث عن الموسيقى بقدر ما تبحث عن معادلٍ لغويّ لثقوب الروح.
-إن مجموعة «مؤامرة الحبر» ليست ديواناً يقرأ المرء صفحاته ويمضي، بل تجربة تُشبه تمريرة يدٍ فوق جرح لا ينغلق.
«قصائد مكتوبة بحبرٍ يعرف المعنى التآمري للمؤامرة…»
قصائد تُكتب لا بوصفها انفعالاً عابراً، بل كأن الحبر نفسه شريك متواطئ في صناعة الألم، يُملي على الشاعر خرائطه الداخلية، ويقوده إلى تلك الجهات التي لا يصلها الضوء. حبرٌ يتآمر مع الوجع ليشكّل شبكة خفيّة من الإشارات، حيث تتحوّل الجملة إلى فخ، والكلمة إلى أداة تعرية، والقصيدة إلى مساحة مواجهة لا يريد الشاعر النجاة منها.
-هذا الحبر، الذي يحمل سرَّ الاحتراق والنجاة معاً، لا يكتبه الشاعر فحسب، بل يكتبه هو أيضاً، يترك على روحه أثراً يشبه لَسْع الحقيقة حين تُقال صراحة، ويعيد تشكيل العالم عبر جملة واحدة تجعل القارئ شريكاً في المؤامرة الشعرية.