فِرات جَوَري: في بيت المير

الترجمة عن الكردية: إبراهيم محمود
مدخل
ذات ربيع هيأتُ نفسي، وقد أحضرت حقيبةً وملأتها بالثياب والأدوات التي أحتاجها في السفر، ومن أجل الحوارات وضعت مسجَّلة صغيرة إلى جانب أشرطة عدة في حقيبة. ومن السويد توجهت إلى سوريا. راغباً في الذهاب إلى بيت جلادت بدرخان، وقد رغبت في البحث عن بيته، كي أجري حواراً حوله مع ابنة عمّه، بحيث أعرف أفكاره وخواطره عن قُرب، وأنا أستمع إلى قصته من فم ابنة عمه وزوجته. في الطائرة تملّكتني حمّى مشاعر، سوى أنني عندما وصلت إلى بانياس منطلقاً في أوتوبيس من دمشق، وطرقت باب السيدة روشن بدرخان، حل ابتهاجٌ محل حمى المشاعر في قلبي .
جائتني السيدة روشن من داخل البيت، مستقبلة إياي، واحتضنتني.
ذكّرَني دفء احتضانها باحتضان أمي التي لم أرها على مدى عشر سنوات، وهي من جهتها، شدّتني إليها تحسراً على احتضان ابنها. وعندما أردت نزْع حذائي عن رجْليّ، منعتني من ذلك، وأرادت مني الدخول بحذائي ووطء الأرضية المفروشة. وأدركت ذلك في الحال ، أن ذلك يعتبَر من الثقافة الفرنسية. وما أن جلسنا بالكاد، ضيفتني سيجارة، فأشعلت لها سيجارة، وبدأت أسأل عن أحوالها وأوضاعها .وهي بدورها، سألتني عن أوضاعنا ومشاغلنا في أورُبا. حيث إنها أظهرت حبَّها الكبير للكتابة بالكردية، وذكَّرتني بأنه من الواجب علينا ممارسة العمل معاً. وكرَّرتْ كلمتها التي كتبتها مرَّة في صحيفة ” هاوار “: ” بالنسبة إليكم، أعطوني وحدة الكرد، أعطِكم من جهتي كردستان مستقلة “. صادقتُها على قولها عندما جيءَ بالشاي لنا، وطفتُ بناظري في أرجاء الغرفة. كانت جدران الغرفة مزدانة بصور عائلة البدرخانيين. كانت تعلونا صور الأخوة الثلاثة: سُريا، كاميران، وجلادت عالي بدرخان. وفي الجهة الأخرى كانت صورة والد السيدة روشن : صالح بدرخان. وفي زاوية الغرفة كان هناك مكتبة بلورية، تضم الكتب التي تقبِل على قراءتها. وضمّت الغرفة كراس ٍ وطاولات تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر بذوق الأرستقراطية الفرنسية. أما المساحات الفارغة الملونة، وهي بالرسوم الكردية القديمة، والتي غطت مضافة الغرفة، وقد تمازجت مع تلك العائدة إلى الطراز الكلاسيكي الفرنسي. وبدورها، على طاولتنا، كان هناك صحف عدة، عربية، وكتب عدة. 
أمضينا ذلك اليوم، حتى ساعة متأخرة من الليل، حتى ونحن نتنازل العشاء، نتجاذب أطراف الحديث حول أوضاع العالم، والكرد، عندما نشر جلادت صحيفة  هاوار، وعن كتّابها، ومشاكل طباعتها وتوزيعها، وأحوال القرّاء.
وقد تجاوزتُ خجلي، ومن جهتها، فإن السيدة روشن، اعتبرتني من أفراد العائلة، وهي من دفعت بي لأن أشعر أنني من أفراد هذه العائلة. وأثناء ذلك، ذكَّرتها بما قاله جلادت بدرخان عالي بدرخان في ” تعالي يا ابنة العم ” والتي كتبها من أجل السيدة روشن، وذكرياتها عن مطلع شبابها. فردت بتنهيدة ” إيه.. إيه  “، وهي تقول، عن أنه لم يكن يحتضنني بحسرة ابن عم فحسب،  وإنما بحسر أب وأخ كان يحتضنني. كان بالنسبة إلي أباً وأخاً كذلك .
تبيَّن لي أن السيدة روشن، تستغرق في خيالات عميقة، وأنها تريد التذكير بجلادتـ: ـها ، بطرق شتى، وتحييه في ذكرياتها. وأنها قامت حينذاك، وجلبت ألبوميْ صور كبيريْن من تلك المكتبة البلورية، ووضعته على الطاولة . وفي البداية أخذتْ ألبوم جلادت وقرَّبت كرسيَّها مني، وأرادت أن تتحدث عن ذلك الألبوم صورة تلو أخرى. واصطحبتني معها عبْر ذلك الألبوم الكبير في رحلة تاريخية، لأنتقل من الزمن الحاضر، وبعمق، إلى الزمن الغابر، ولا أذكر كيف اندسستُ في الفراش، ونمتُ.
1
لقد انتهينا من الألبوم الأول ، ومضينا إلى عالم الألبوم الثاني، تناهى إلى مسمعي في منتصف الألبوم الثاني صوت سعلة من جهة الباب، سألت السيدة روشن بدرخان عمَّن يكون الضيف السعيد، فردَّتْ:
إنه عمُّك جلادت .
دخل المير جلادت إلى غرفتنا، وقال مبتسماً: 
-جئتَ أهلاً يا الضيف العزيز .
الألبوم الذي بين يدي وضعته على الطاولة، ونهضت، لكي أقبّل يده، لكنه لم يسمح، وتعانقنا.
تالياً وضع يده اليمنى على كتفي، ودفعني بالتفضل إلى الجلوس. فجلست. وهو بدوره نزع سترته السوداء وأراحها على مسند الكرسي، وجلس بجواري. وبدا من لباسه أنه قادم من فرح. الصديرية الرمادية، القميص الأبيض، وربطة العنق المرقَّطة، كانت تليق به كثيراً. وهناك شارباه ولحيته الخفيفة على ذقنه، ووضع يده بودّ على كتفي ، وقال بحميمية:
-سمعتُ أنك سلكت طريق  هاوار ، وأنك نشرت  هاوار  في طبعة جديدة. بإجرائك هذا فرَّحتني كثيراً، أطال الله في عمرك. طبعاً، لأجلكم نشرت  هاوار ، الشكر لله لأنكم سمعتم بوجودها، ولهذا سأنام قرير العين في قبري .
وعندما أشعلَ السيجارة، ولئلا يصلني دخانها، نهض وابتعد عني ليجلس على حافة الكنبة المقابلة لي، وأنا من جهتي، وضعت شريط كاسيت في مسجَّلتي الصغيرة ، وهيأت نفسي للأسئلة.
كنت أرغب في أن أفاتحه حول كل شيء. سألته:
2
فرات جوري:
عندما توفّي أخوك بدرخان، كتب المرحوم والدك رثاء عنه. إن شعر والدك في الواقع، عندما يدخل قلب أحدنا، يحزنه كثيراً. وكان مطلبي لو أنك تقرأ لنا ذلك الشعر، لكنني لا أريد إثارة شجونك، وأنا أجدد ذكريات مؤلمة، لهذا، لو سمحت، أرغب في أن تتحدث عن والديك وعائلتك، وإن تكرمت في الحديث بداية، ولو في بضع كلمات، عن جدّك بدرخان، فتعرّفنا عليه، سيكون ذلك مفيداً.
المير جلادت عالي بدرخان: بدرخان ذلك الذي نشِط من أجل وحدة كردستان، ومن أجل استقلال كردستان، انخرط في الحروب والصراعات، وضحَّى بكل شيء في هذا الطريق، وقضي في سبيل ذلك.
-والدك أمين عالي بدوره، سلك طريق والده، حيث إنه خاض أيضاً حروباً ونزاعات من أجل كردستان. تُرى ، كيف يمكنك أن تعرّف بوالدك؟
-والدي هذا، بالنسبة إلي، ليس الذي ضحّى بدمه الطاهر حصراً-ذلك الدم الكردي الذي ينتعش على مدى آلاف السنين في مصائف بوتان، بهواء الشمال، وفي جزيرى ، كان يسخن وسط مشاتي صخور” برج بلك: البرج الأبقع ” وحافاتها الصخرية، وفي كل مرة، في ميادين الحرب والكرامة، ويصب في واجهات وقائع عائلة  عزيزان، ويهدأ في كلماتهم-سوى أنه ربّاني بقلب وعقل كرديين، ووضعني على ذلك الطريق الذي سلكه هو ووالده وقضيا فيه.
-بالرغم من أن أمَّك كانت جركسية ، إلا أنها كانت مخلصة للكردية بكل السبل. كانت أكثر من كونها كردية، ويقال أنها انزعجت عندما أردت دخول مدرسة الحربية، لم تكن ترغب في أن تنخرط في الجيش التركي.أهذا صحيح؟
-هذه الأم، حين كنت في عمر الثمانية عشرة، التسعة عشر عاماً، وأنا أرغب في الالتحاق بالمدرسة الحربية، كانت قد قالت لي: ” أليس هذا يمس شرفك ؟ كنت ستلتحق بالمدرسة الحربية، لتصبح ضابطاً تركوياً. هذا التركوي الذي سلب منك وطنك، وحوَّل شعبك إلى عبيد، وشرَّد جدودك، وجعلكم ذليلين “.
-أستاذ، حقيقةُ، إن اسم عائلتك وكذلك دور عائلتك، في التاريخ السياسي والثقافي الكردي كبير. لكن عائلتك الكبيرة والشهيرة، تعرضت لظلم وأذى كبيرين على أيدي العثمانيين، ولاحقاً من جهة مصطفى كمال. أنت نفسك أصبحت شاهداً على هذا الظلم، وعانيت الكثير من الألم والعذاب. خصوصاً سنة 1922، عندما توجهت أنت وأخوك إلى ألمانيا، وأقمتما عند أخيكما صفدر، بعدها بزمن قصير، ظهرتْ أزمة كبيرة في ألمانيا، وإلى جانب أزمة ألمانيا كانت مأساة عائلتك، وقد جعلتْك بائساً في ألمانيا. كان الوضع هكذا، وهو أنك لكي تعيش، بعتَ لباسك، إنما درست، ولم تبتعد عن العلم، حيث كنت تفكر دائماً في مستقبلك.
أوَتريد الصحيح، كنتَ تفكر أكثر مما يتعلق بمستقبلك، ومستقبل الكرد ووطنهم. حيث إنك رأيت كيف تداعتْ عائلتك، وفي ألمانيا موت أخيك صفدر، وفي مصر موت والدك أمين عالي، إلى جانب فشل انتفاضات كردية عدَّة. وقد شكَّلت حركات سياسية، وأصبحت رئيساً أيضاً، إنما انسحبت تماماً، تاركاً السياسة الحزبية، وانخرطت بكل قواك في ميدان الثقافة، اللغة، والأدبيات الكردية. وفي الوقت نفسك باشرت بإصدار صحيفة، وأطلقت عليها اسم ” هاوار” HAWAR ” الصرخة، النجدة، بالكردية. المترجم “،تُرى ماذا تكون ” هاوار ” ؟
-هاوار صوت العلم.
– أي علْم ؟
-العلْم معرفة الذات.
-معرفة الذات ؟…
-بالنسبة لنا، يدشّن العلم طريق الخلاص والسعادة، إن كل من يعرف نفسه، يستطيع أن يعرّف بنفسه.
-ماالذي سيتصدر عمل هاوار الخاصة بك؟
-هاوار” نا” بالنسبة إلينا هي قبل كل شيء، التعريف بوجود لغتنا. 
-لمَ؟
-لأن اللغة شرط أوّل للوجود.
-تُرى، هل نستطيع القول، عن أن هاوار صحيفة أدبية، ثقافية، لا صلة لها بالسياسة ؟
-لقد تركت هاوار السياسةً للاجتماعات الوطنية، لتنشغل هي بالسياسة .
-لو تكرَّمتً هل تستطيع الحديث عن طبيعة نشاطك؟
-العمل الذي يمكن إتمامه، لا بد من وضع مسوَّدة له.
-على أي أساس، وضعتم مسوَّدتكم؟
-لقد وضعنا مسودتنا على هذا الأساس التالي.
-لو تكرمت، هل تستطيع أن تفصّل لنا فيها نقطة نقطة ؟
1)-توزيع ألفباء الكردية، بين الكرد، وتعليمها. وتصنيف مراحل تعلم اللغة الكردية، وتدريجياً، توزيعه في الاجتماع، ولاحقاً إصدارها على هيئة كتاب.
2)-التحقيق حول اللهجات الكردية، وجمعها. والتحقيق حول إنسانية اللغة الكردية، إلى جانب اللغات الآرية الأخرى، والتحقيق حول أسس اللغة الكردية، وحول التاريخ ، وصيغ النهوض والتقدم الخاصة بها.
3)-جمع الحكايات، والأقاصيص، وكل أشكال التراتيل والأغنيات الكردية، والعمل على نشرها.
4)-تصنيف الدواوين الكردية وتوزيعها، وضمناً ما يخص سيرة حياة الشعراء ومن جرى اختيارهم كذلك، وهي بدورها سيجري توزيعها. 
5)-التحقيق حول الرقص وألحان الأغاني الكردية .
6)-التحقيق حول صفة الأساليب الكردية وكردستان، فيما يخص اللغة السابقة، والسائدة اليوم، وتصنيفها. والتحقيق حول موارد كردستان، وأقسامها ومِهنها.
7)-التاريخ والجغرافية:
والتحقيق حول عموم تاريخ الوطن كردستان وجغرافيته ، وحول تاريخ العشائر، سابقاً ولاحقاً، وفي عهد المير شرف ” شرف خان بدليسي. المترجم “
شكراً لكم على هذه المعلومات. في الواقع، لقد هيأتمْ أنفسكم لعمل كبير، ومن وجهة نظري، وفي الأهم بالمقابل، هو أنكم تجاوزتم المأثور التركي- الكردي، أو تجاوزتم التركي وحده، وأنتم تصدرون صحيفتكم بالكردية. هذا صنيع مبارَك. لا أدري من يقول هنا وهناك ، عن أن اللغة الكردية لا تكفي السياسة والأدب، تُرى ما نوعية الكردية التي يعرفها حضرتك؟
-أعرف لغتي بدقة، وأنني أجريت مقارنة بينها وسبع لغات أخرى ، ودققت في مفرداتها، وميّزت ما بين إيقاعاتها، بحيث إنني أستطيع أن أفصّل فيها وأعرّفها بصفة أفضل وأمثل من الأجانب.
-أستاذ، إنما علينا، أن نعترف أن لغتنا لم تتقدم في مختلف المجالات، ومن المؤكد أن هناك أسباباً لذلك، فبالنسبة للكرد، حتى عهد قريب لم يكونوا دولة، ولغتهم لم تتحرر، لم تصبح لغة العلم والتجارة، لم تصبح لغة الفلسفة والمدنية، لهذا انحصرت في زاوية ضيقة، أو أنها في بعض المجالات محدودة، وفي أخرى موسَّعة. تُرى، هل يمكن لحضرتك أن تشرح هذه النقطة. أي لماذا بقيت اللغة الكردية في نطاق ضيق، أو أين يتسع نطاقها؟
-لغتنا اليوم، من ناحية ضيقة، ومن ناحية واسعة: بالنسبة إلى كل ما يهتم به الكرد، وتعاملوا معه، فإنهم متقدمون في هذا المنحى مقارنة بلغات أخرى، وأكثر منها، واكتمل نصابها، ولم تتخلف عن أي لغة مكتملة أخرى.
وفي نطاق ضيق: بالنسبة إلى كل ما لم يُعرَف من قبَل الكرد، ولم يهتم الكرد به، في هذه النقطة توقفت لغتنا، ولم تتقدم، إنما بقيت في مكانها. 
سوى أن لغتنا من تلك اللغات التي تستولد كلمات جديدة، وفي السياق توضع حلول لتلك الكلمات.  
-لم أستوعب ما قلته أستاذ، بأي معنى؟
-كما الحال بالنسبة إلى أهل وادي غويان، قبل أربعة عشر عاماً، عندما رأوا الطائرة، في الحال، أطلقوا عليها اسم الطائرة  balafir، لهذا فهي تقلع من الأسفل إلى الأعلى، وكذلك فإن الكرد عندما رأوا الهاتف” التلفون “، أطلقوا على سماعته ” السمّاعة ” ، لأن الصوت يُسمَع من خلالها.
-نعم، يا أستاذ، الجاري هكذا.الآن ظهر شيء جديد، حيث إن حضرتك لم يره” هاتف اليد” ” الموبايل. المترجم “، السويدي يقول ” جهاز التلفون  Mobil telefon “، التركي يقول ” جهاز الجيب Cep telefon”، والألماني من جهته، يقول مثل الكردي : جوّال ” handy “، وهو من جهته يأتي بمعنى” هاتف اليد “.
وأرغب في أن تتحدث بإيجاز، أسلوب كتَاب اللغة الكردية؟
-اليوم، هناك علامتا نقص في لغتنا: فقدان كلمات كردية، وحلول كلمات أجنبية في اللغة . 
-كيف نتمكن من  استعمال لغة كردية صافية؟
-في فقدان الكلمات، توجد كلمات فُقدت تماماً. هناك كلمات خرجت من لهجة، لكنها تحيا في لهجة أخرى، وبضع كلمات، تقال في الحديث الشفاهي بصورة محدودة، سوى أنها تُسمَع في الألغاز، الأمثال، الحكايات، والأغاني.
ونحن نقتفي أثرها، وتدريجياً، نحصّلها، ونصنّفها، وتبعاً للحاجة بالمقابل، انطلاقاً من طريقة تأليف الكلمات الكردية، نبني كلمات جديدة. 
-كما يعلم حضرتك بالمقابل، بالنسبة للغة الكردية في فترة الحداثة، لم تُستعمَل على صعيد الكتابة إلا قليلاً. ربما لهذا السبب، تكون لغة الكتابة بالنسبة للقرّاء الكرد صعبة إلى حد ما. بالنسبة إلى تقدّم اللغة الكردية، أي أنشطة لديكم ؟
-بغية تقدم اللغة، علينا أن نسجّل بنودنا، إلى جانب هذه الكلمات، ونثبت ملحقاً قاموسياً صغيراً في نهاية كل عدد، لقرّائنا يتضمن إظهاراً لمعاني الكلمات التي نقصتْ في اللهجات، وتلك التي جرى تأليفها أو وضعها حديثاً.
-أرغب في العودة مجدداً إلى الحديث حول  هاوار . لدي فضول في أن أعرف كيف سيكون صدور  هاوار  زمنياً، بالنسبة إلى كل عدد؟
-بداية، سوف تصدر نصف شهرية باجتماعنا. وبعد إصدار عدة أعداد، سيكون صدور  العدد في بداية كل أسبوع وتوزيعه.
– سوى أن هناك تواريخ مختلفة في حياة  هاوار ، إذ إنها لم تصدر كما كان يُراد لها. لقد تأخرت، أو أنها توقفت لبعض الوقت. تُرى، لو سمحت، هل يمكنك أن تتحدث عن هذه التواريخ المختلفة، وأسباب توقف  هاوار “؟ 
-في حياة  هاوار  هناك ثلاثة تواريخ مذكورة ..
التاريخ الأول: 15 أيار 1932. انتقال نداء الكرد وصرختهم من القلب وفمهم إلى سطور بضع صفحات، وشكَّلوا مجلة كردية. ولقد ولَّدت هاوار للكرد هاوار جديدة، هاوار العلم والتعليم .
-ما أعرفه، هو أنه حتى ذلك التاريخ، كان الكرد محرومين من ألفباء موحدة، أو أنهم كانوا يخضعون لنير ألفباءات سلطوية. تُرى، ماذا عن تاريخ 15 أيار، بالنسبة للكردمانج ؟
-هذا اليوم يوم تاريخي، في حياة الكرد الاجتماعي والأدبي . في هذا اليوم، امتلك الكرد ألفباء مستقلة، ألفباء كردية، وتحرروا من نير ألفباءات شعوب أجنبية أخرى.
-كيف تستطيع أن تعرّف ألفباء لشعب ما؟ ما هي الألفباء ؟
-الألفباء راية، راية استقلال وجودنا الأدبي. سابقاً، على قلعتنا الأدبية، كانت تخفق رايات أجنبية. في هذا اليوم، أنزل الكرد تلك الرايات، مزَّقوها، وأحلّوا محلها رايتهم القومية، وتخلصوا من أسر تلك المؤثرات ، واحتموا بظل خاصتهم، واستقلّوا في هذا المقام .
-لقد قرأت في موضع ما، أنك كنت تشتغل سنة 1919 على ألفباء، ترى، هل هي نفسها الألفباء التي تتحدث عنها ؟
-أي نعم، إنها الألفباء التي اشتغلت عليها سنة 1919، ونشرتها في ذلك اليوم على صفحات هاوار.
-نعلم، بالرغم من أنها كانت تنطق بالكردية، حيث Pê  لم تُكتَب، وأنها نادراً ما كانت تُكتَب، والذين كانوا يكتبونها بالمقابل، نجدهم من الملالي والفقهاء الذين تعلموا في المدارس، ويعلم جنابكم بذلك، كانوا يستخدمون الألفباء العربية، وأنهم كانوا يكتبون بالحروف العربية. تُرى، في ظرف كهذا، أكانت ألفباؤك تفيد؟ أكانت تخرج صحف وكتب بها ؟
-الكرد الذين سمعوا بها، وتعلَّموها، اليوم يكتبون لغتهم بألفبائهم القومية، دون عوائق، ويقرأون المجلات والكتب بسهولة.
-سوى أن هاوار لم تدم طويلاً. حيث إن عددها الـ 26 في 18 آب 1935 وزّع، ومن حينها لم تعد توزَّع . 
-سوى أن أساس القراءة والكتابة، ما يخص الألفباء كان قد تم نشره، وبعد سبات هاوار بالمقابل، وإن لم يكن كثيراً، وعدَماً، أيضاً، كانت تصدر كتب، وتصل إلى أيدي الكرد. 
-في تلك السنوات ،فيما يخص الكرد الذين كانوا يذكرون وجودهم، وفي قلبهم ، كانوا يحملون احتراماً لأمتهم ووطنهم، دأبوا على تعلم قراءة لغتهم وكتابتها، وتقدموا في مجال تعليمهم. هؤلاء لم يعملوا ويتعلموا فحسب، ، إنما ربطوا ما بين العمل والعلم أيضاً. . هؤلاء أصبحوا مدرسة لهذا الشعب المحروم من المدرسة، حيث إنهم علموه درس شعبه، وانتقلوا به من الناس الأميين إلى الناس المتعلمين . 
-عندما ننظر إلى أولئك الذين كانوا ينشغلون بقراءة اللغة الكردية وكتابتها، نلاحظ أن عددهم قليل جداً، وبمقدار ما يقول جنابك أن من بين أولئك الناس الأميين، من تمكَّنوا من التقدم في القراءة أيضاً، من وجهة نظري، فإن عدد أولئك القراء الذين أشار جنابك إليهم، محدود جداً. في رأيي لو أن القرّاء والمتعلمين ، الأغنياء والسياسيين، تنشطوا في تفعيل اللغة الكردية، حينها، سوف تُذَلَّل مشكلة اللغة الكردية سريعاً. وكما يعلم حضرتك بذلك بالمقابل، هناك ما لا يفسح في المجال في المجالس لأحد لكي يتحدث حول اللغة الكردية وأدبياتها، سوى أننا نجد أنهم أنفسهم لا يهتمون باللغة الكردية، هم أنفسهم لا يتكلمون الكردية، ولا يكتبون بها، يضاف إلى ذلك أنهم حتى بالنسبة إلى صغارهم لا يعلّمونهم الكردية. تُرى، ماذا تقول في هذا الجانب ؟
-إن الذين صنَّفوا أنفسهم من الكرد الأخيار والمخلصين للوطن، وأمضوا وقتهم بالتوافه من الأمور، لهذا هم لا يعرفون التمييز بين “e ” و” ê “إنما يعرفون اللغات الأجنبية، ومنهم من يعرفون بعضاً منها، وهناك من يظهرون متمرسين قراءة ومعرفة في تلك اللغات أيضاً. سوى أنهم فيما يخص لغتهم الأم، بهذه اللغة الحلوة والعذبة ، بلغة الآباء والأمهات، بلهجات الأجداد والأسلاف لا يعرفونها. 
-المفارقة، أنني لا أستوعب هذا الموقف. فهم لا يكفّون في الحديث عن تبعية الكرد، والحديث عن الحظر المفروض على اللغة الكردية، يتحدثون عن الثقافة الكردية، سوى أنهم لا يحاولون التكلم باللغة الكردية، وأن يتربوا على الثقافة الكردية، وفي قيام الكثير منهم وقعودهم، ميْل إلى الأجانب. أستاذ ، أحياناً أتصور هكذا، أن هؤلاء يشعرون بالخجل إزاء لغة شعبهم، ثقافته، أنشطته المختلفة، ويحبون تلك العائدة إلى الآخرين. وإن لم يكن الوضع هكذا، لكان عليهم، وبإصرار، في كل مكان، وقبل كل شيء، أن يتكلموا بلغتهم. ماذا تقول في أمر أمثال هؤلاء؟
-يمكننا القول كما لو أنهم لا يريدون أن  يتخلصوا من سلطة تأثير الأجانب، وأنهم يستعذبون الأسْر في ركابهم.وإن كان الوضع كذلك، لا بد أن هناك عرْقاً دساساً لهؤلاء الأجانب ينبض فيهم.إن عرْقاً كهذا، التصق بهم خلسة، وكما قال الشاعر السوري:
لو أن كل واحد يُعرَف كردياً ولا يحب الكرد
نسَّب نفسه إلى والده لا إلا أمّه
نعم، هو لا يعرف لغته الأم.
-وربما، تكون لغتهم الأم كذلك، أي الكردية ثقيلة، صعبة، لهذا لا يستطيعون التعلم بسرعة هكذا. إزاء ذلك ماذا يمكنك قوله ؟
-إن قراءة الكردية وكتابتها أسهل من أي لغة أخرى. أنا نفسي جرّبت ذلك، كردي أمّي، قياساً إلى طاقته، تعلَّم ألفباءه في وقت قصير جداً.
-يعني كم هو هذا الوقت القصير؟
-من خمسة أيام إلى ثلاثين يوماً .
-يعني، أن هؤلاء، في مقدورهم أن يتعلموا لغتهم في وقت قصير، إنما لا يريدون ذلك. إنه لأمْرٌ عجبٌ ، لا أصاب الله شعباً آخر بهذه التغريبة. وقتذاك، أصاب هذا البلاءُ الكرد. وإن أردت الحقيقة، يتشنج أحدنا  للغاية أحياناً من أصناف الكرد هؤلاء. وأنا أعلم أن جنابك أيضاً تضايق كثيراً، بحيث إنك كتبتَ ذات مرة هذه السطور:
– ” ويلٌ لكم! أليس لديكم بعض الوقت، حيث إنكم انشغلتم  لسنوات بلغة الأجانب، واليوم أيضاً تنشغلون بها، بغية التشدق بكلمات كاذبة. إنه معيبٌ، مخجلٌ، وشائن، إما أن تتعلموا لغتكم، أو لا تقولوا عن أنكم كردٌ، دون اللغة الكردية لا كرامة لكم، وبالنسبة لنا عارٌ  “
-إزاء ذلك أيضاً، أنا على يقين، أن هناك من يحاولون تعلم لغتهم بمختلف الوسائل. إنهم يريدون التحرر من تأثير الأجانب بشتى الطرق. وربما يكون عدد هؤلاء قليلاً، إنما يكونون موجودين. ماذا تقول لأناس كهؤلاء ؟
-يا حيف، ويا للأسف، وألف أسف، لهؤلاء الذين يعرفون اللغات الأخرى، وهم يقرؤون ، ويكتبون بها، ولا يعرفون شيئاً من لغتهم.
-أستاذ، هناك أشخاص، لقد فاتنا زمن التعلم، ونحن كبار السن، وهذا بالنسبة لنا، عمر متأخر، بحيث نتمكن من تعلم لغتنا. هل صحيح أن هناك تأخراً بالنسبة للتعلم ؟
-للتعلم، لا وقت محدد له ، ولا يفوت وقت التعلم على أي كان .
– لو تكرَّمت، تُرى، هل تستطيع أن تتحدث عن تاريخ هاوار في الحالة الثالثة ؟
-أعداد هاوار في المرة الأولى، بلغت ” 26 ”  وقد سعتْ إلى أن تعلم الكرد ألفباءها. وكما قلنا سابقاً، فإن هاوار وسط شعبها المحروم من المدرسة، قد بلغت غايتها قليلاً أو كثيراً .
-وسوف تنشط هاوار مجدداً، وسوف تكون هناك إضافة من جهتها إلى ما سبق.
-أستاذ، ما هذا الذي ستضيف ما سبق ؟
-القواعد. في العدد الأول من هاوار، نشرت ألفبائي. وفي هذا العدد سأباشر بنشر قواعدي.  وهذه خطوة جديدة في اللغة الكردية ” الكردمانجية ” المكتوبة. ومعلوم، أن أساس أي لغة يستند إلى عناصر جوهرية ثلاثة: الألفباء، القواعد والقاموس. وقد نشرنا الألفباء، ، واليوم سنباشر بنشر القواعد، وإن شاء الله سيكون القاموس في الخطوة التالية .
-نحن نعلم أن اللغة تأتي قبل القواعد. بمعنى أن الناس عندما بدأوا بالكلام أولاً، ما كانوا يفكّرون في القواعد. بداية، تشكلت اللغةُ، وفيما بعد، وضِعت ضوابط لتلك اللغة، سوى أن تلك الضوابط أصبحت، بحيث يجب علينا ألا نلتزم بها، إذ تظهر أخطاء اللغة بصورة جلية. إن ضوابط اللغة والقواعد صارت لغة اللغة . 
إنما أريدُ الاستفسار من جنابك مرة أخرى، ما هي القواعد ؟
-لقد عرَّف النحاة القواعدَ بأشكال مختلفة. باختصار، القواعد، هي جميع ضوابط الكلام الصحيح، والكتابة الصحيحة بالنسبة للغة. وهذه الضوابط عينها تُستخرَج من اللغة. نعم، إن أيَّاً كان، يتكلم لغته الأم ، دون أن يفكر فيها، وهذه الحقيقة يجري تقعيدها ببعض الضوابط، وأحدنا حين يتكلم، يلتزم بها دون أن يعرف ذلك .والنحاة يدققون في هذه الضوابط، وهم يميّزون فيما بينها، ويصنّفونها. إن مجموع هذه الضوابط يشكّل القواعد نفسها.
-شكراً جزيلاً أستاذ. سوى أن هذه المعلومات التي أوردتها بخصوص القواعد عامة، وتصلح للغات كافة. وهنا أريد أن أعرف فكر جنابك بصدد القواعد الكردية، وهو مرتبط بهذا الموضوع كذلك، وهو أنني متشوق إلى معرفة متى بدأت تهتم بالعمل على القواعد ؟
-إن القواعد التي أنشرها اليوم في هاوار، كنت قد وضعتُ أسساً لها سنة 1929 في ” الحسكة “. ومن ذلك الوقت أنشغل بها. قبل عامين، وضعت كتاب قواعد مدرسياً للتدريب والعمل الوظيفي. ومع اندلاع الحرب، لم أتمكن من طباعته .
إنما من ناحية أخرى، كانت حاجتنا إلى القواعد، في ازدياد، يوماً بعد يوم، إذ إن الشباب الذين كانوا يتعلمون القراءة والكتابة، كانوا يأتوننا، ويسألون عن ضوابط لغتهم، ويطلبون كتاب قواعد. 
أثناء ذلك حصلنا على رخصة لإصدار هاوار من جديد. وقتذاك باشرت بوضع تصنيف قواعد من نوع آخر، ليس قواعد مدرسية، إنما أسس ضوابط القواعد الكردمانجية. وفي الجانب الآخر، كنتُ قد وضعت كتاباً صغيراً تحت عنوان ” سينم خان “. وهذا الكتاب الصغير بالنسبة للصغار كتاب قواعد صغير .
-معمَّرة دارك أستاذ. في الحقيقة، بفضل هذه القواعد، وبفضل الألفباء التي وضعها جنابك، نستطيع اليوم القراءة والكتابة بسهولة، إنما بسبب أن المدارس الكردية لم تُفتَح بعد، فإن الكرد لا يقرأون بالكردية في المدارس، لهذا، فإن اللغة الكردية بقدْر ما يكون هناك طلب عليها، وبقدر ما تكون ضرورية، لا تنتشر بين الناس، ولهذا السبب، فإن الذين يتعلمون ضوابط اللغة قليلٌ عددهم، ويكونون محدودين. في هذا الشأن، هل لديك مشورة، أو اقتراح ؟
-نعم، التعلم وحده لا يكفينا. علينا بالمزيد من العمل كذلك. إن كل كردي يعرف القراءة والكتابة، عليه أن يعلّم من لا يعلم، ذلك مطلوب من الكردي المتعلم، إن لم يكن هناك من يعرفهم كرداً أميين قريباً منه، واجبه أن يبحث عنهم، أن يعثر عليهم ويعلّمهم.
للبعض ، يكون التعليم من وزن متعة التعلم، وربما يكون أحلى وأكثر قيمة كذلك. نعم، إذا كان التعلم عبارة عن تجميع، وتلقّ، والتعليم تسليم وعطاء . ومعلوم أن للكرد شهرتهم باعتبارهم اليد المعطاءة .
-في هذا لمضمار، هل لديك كلمة لقرّائنا ؟ 
-نعم، تعلَّموا، وهذه المرة أكثر وأفضل بصورة مضبوطة. سابقاً كان هناك الألفباء بين أيديكم، والآن بالمقابل، وصلتْكم القواعدُ .   
*-Li mala MÎr, Firat Cewerî,roman, avesta, çapa 4an, Stembol, 2015. 126 r. 
ملاحظة من المترجم: كتاب الكاتب والروائي والقاص الكردي المعروف فرات جوري: في بيت المير، رواية، آفستا، ستانبول، ط4،2015. في 126 صفحة، من القطْع الصغير، والطبعة الأولى صدرت من منشورات نودم، 1998. لجوري العديد من الكتب في الرواية، القصة، الكتابة الصحفية، وأنطولوجيا القصة الكردية، ويقيم في السويد الآن ، منذ عام 1980، وهو من منطقة جبل مازي، في كردستان الشمالية.. 
وما قمت بترجمته، يقع بين صص ” 9-26 “

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…