سماءٌ على أرضها: «قراءة في كتاب الشاعرة الكُردية مزكين حسكو: من صُرَّة الحياة» (3)

إبراهيم محمود
 
نحن مسمّيات الثقافة
لا تسمّي الثقافة نفسها. ليس للثقافة لسان. ليس لها صوت. ليس لها كيان على وجه العموم. لا مكان مجرداً لها. إنما حيث يكون الذين يتحدثون باسمها. يشيرون إليها، وهي داخلهم، أو تتشكل في أقوالهم وأفعالهم. وعلى قدّر اختلافهم، تكون تبايناتها، فتكون لها روحها التي تنعطف على من يتكلمها أو يتدبرها، أو يعرَف أو يعرَّف بها، وفيها تكون الشخصية ثلاثية الأبعاد .
بناء عليه، في كل منا، حضور ثقافي، ذلك يتوقف فهماً وتقديراً ومعاينة، على الذي يمارس مسحاً ما، متعدد المسارات والمرامي للثقافة، وما لذلك من حضور زمني وحمولة اعتبارية مكاناً.
في شأن الكاتب، تكتسب الثقافة لوناً، طعماً، شكلاً، صدى، عمق أثر، حراكاً، أفق رؤية، سياسة تفاعل مع الآخر والوجود، واستراتيجيا إقامة في الحياة، والنظر إلى المستقبل..
هل لدى الشاعرة الكردية، وكاتبة ” صرة الحياة” مثل هذا الحضور القاعدي في الثقافة ؟
عموماً، ينبني الكتاب من ألفه إلى يائه على تصور ثقافي. لنقل: خريطة ثقافية، تجمع ما بين إحداثيات مترامية الأطراف تمثّل العمر الزمني الذي يعنيه، وتلك البيئات التي أودعتها ” خريطة ” كتابها، وما يتوزع عليها من حالات هي مناخاتها النفسية، هي تشكيلاتها السيرية الفنية.
يمكن لأي كان، إن أوتيَ بأسَ قراءة للكتاب، أن يتحرى حركية الثقافة، بدءاً من العنوان، وما بات يعرف بعتبة مميزة لكتابها، تالياً، ليكون لكل إشارة، صورة، رقم مأثرة أثر ما .
وإذ أقيم علاقة حوارية مع ” صرة الحياة ” وهي مفتوحة عبْر القراءة، أتعامل مع تركيبها من الزاوية عينها، أي حيث ورد الكتاب بأسلوب الفقرات” الشذرات ” المتداخلة “، لألتقط تلك الفقرات المتناثرة بين صرر هي مكونات حصاد عمر معين، وبحساب ثقافي وذوقي معين أيضاً.
ذلك يعيننا، على تبيّن علامات فارقة لصورة الثقافة، وإضاءتها لهذه الخريطة وتوزع عناصرها.
مما يؤسَف له في تاريخ صادم
سأتوقف عند جرحنا التاريخ الغائر والملتهب، وهي جرح حضاري وشاهد على ضعف حضور في الحياة وفهمها. تقول في الشذرة: الصرة ” 10 “
للأسف…
لازال سوق الكتب بيعاً وشراءُ في غاية الضعف. ما الحيلة.. لازال السوق راكداً” تذكيراً بشطر شعري لأحمد خاني، في مم وزين “
وهو ما تؤكد عليه زمنياً:
الوضع.. كما كان قبل ثلاثمائة عام طبق الأصل تقريباً. والظاهر… أنه سيظل هكذا أيضاً، أو إلى قرن آخر بالمقابل.
نحن الكرد، بحاجة إلى تغيرات، وذلك في مختلف جوانب الحياة والفكر.
إنما أنا أعلم جيداً..
أن المجتمع الجاهل” الأمّي “..لن يكون مستعداً للتغيرات..ص23
تلك مكاشفة مكثفة، ووامضة، تشير إلى أن مفهوم التاريخ ليس ما كان، وإنما ما يستمر في حيويته، ويمتد إلى الآتي، والزمن حمّال التاريخ هذا، والجغرافيا منصّته الطبيعية المؤثرة. الزمان حيادي، لكنه شاهد على من يعيش فيه فيما يقوله وما يقوم به، وهو مقرّر تاريخ.
في مقدور أي كان أن يبصر مجتمعاً بكامله، وهو بتلك الأثقال المادية والمعنوية.
لا ثقافة إلا بوجود من يمتلئون بالحياة، والحياة تحاسب المقيمين فيها اعتباراً ووزناً.
ولعل المؤثر الثقافي في خراب محتواه، آفة الكرد الكبرى.. هل يمكن القول في ضوء ما تقدم: قل لي أي ثقافة تحمل، أقل لك من أنت ؟
الثقافة حية، ناطقة بما في مكنونها، في داخلها، وهي تترجم، أو تظهر ما هو خاف. ليس شرطاً أن يكون الكلام هو العلامة، أو الإشارة ، أو القيام بحركة معينة، إنما دون كل ذلك، حين نتبين في أحدهم مثل هذا التجسيد لحركية الزمن، لوعي التاريخ، والسير الحثيث إلى أبعد مدى له، وهي العلامة الكبرى للذين يقدّرون الثانية نفسها، في عالم الراهن، والسباق على المفهوم رمزياً.
في زمن مفتوح، خامد، وزمن مفتوح كما هو تدفق النهر، يمكن تقويم العالم ومواقعه هنا وهناك..
المجتمع في المرمى نفسه.
ما يثري الثقافة
ما ترددَ آنفاً، هو الممكن تفعيل حضوره وإبراز قيمته، لحظة التأكيد على الجاري في العالم، وعبْر بوابة الفكر والفلسفة، حيث المجتمعات تتباين وتتمايز عن بعضها بعضاً.
في الصرة ” 14 ” نقرأ:
هناك الكثير من الفلاسفة، المثقفين، النوابغ، وعلماء الحياة، ممن أتوا على ذكر تجاربهم، وأودعوها كتباً.
إنما الظاهر، هو أن كلاً منا، يتعلم من تجربته أكثر.
كل تجربة حالة مختلفة.
وكل حالة مختلفة، لها تجربة خاصة بها ..ص 27 .
ذلك ما تسمّيه الثقافة، وتسمى به بالمقابل، فالتجارب منابع رؤى ، وأنهار جارية، والمجتمعات هي هذه الأرضي الممتدة على الجانبين وهي تسقى بها، وتترجم فعالية السقي حضارياً.
ولو سئل عن الكردي في هذا المنحى. أي تصحر يمكن تبينه داخله وحوله هنا وهناك؟
في سلة الثقافة
سلة مثقوبة، سلة مهترئة، سلة قوية…إلخ إنها مؤشرات على ما هو ثقافي.
ما تقوله مزكين يفضي إلى ما هو نافذ الأثر في وسطنا الكردي، وذيوع صيته سلباً طبعاً.
حين نقرأ في الصرة ” 22 “
إنه صدع فريد من نوعه.
حيث إن أحدنا، وبسبب قواعد أخلاقية اجتماعية، وأسباب خاصة، لا يستطيع أن يصارح من هو مقابله قائلاً:
أنا لم أعد أثق بك أبداً.
( المقصد.. ذلك الشخص الكذاب. ص 35 ).
ما أكثر الكذابين في وسطنا، ما أبرزهم حضوراً في مجتمعنا.. ما أصغر وما أبأس مجتمعنا..
صورة الثقافة لا تحتاج لمن يميط اللثام عنها، فهي بائسة جداً.
من روافد الثقافة
ماالذي يبقي الثقافة حية؟ الحياة في انفتاحها وتنوع علاقاتها، والتعلم من كل ذلك.
في الصرة ” 27 ” نقرأ:
القراءة والارتحال يوسّعان عقل الإنسان.
هذا الإنسان المنفتح في عقله.
يستفيد  من التجارب
أكثر من المتعصب والجاهل. ص 40.
إنها علامة فارقة أخرى من علامات المجتمع الذي يتباهى بجهله لا بعلمه، بانغلاقه على نفسه لمسوغات شتى، لا بانفتاحه على العالم. ومن ينظر ير..
ففي مجتمع كهذا ما أكثر الحالات ” الظاهرة ” التي عرّي أمثال هؤلاء الجهلة والمارقين:
هناك من يعتقدون أنهم أذكياء جداً
بحيلهم، وخدعهم وسوء تدبيرهم .ص 43 .
ويدخل في هذا المنحى ما يضيء صورة المجتمع الشبحية وهزال معناه، في أحقاده:
لا أثقل من حمْل الضغينة
الضغينة
تكسر ظهر صاحبها
قبل أي كان
وتؤدي به إلى انتكاسته أكثر فأكثر..ص48 ..
ولأن لدينا ظاهرة كهذه فهي تستفحل ويجري مديحها..
ثقوب العالم الكبرى
الثقافة تكون شهيدة اسمها إن كان في دونية وضع، وشاهدة عليه، حين ينظَر في أمرها. والثقافة هي التي تمارس تقويماً لحقيقة المتداول باسمها، وما في الحقيقة مما هو حقيقي ومزيف.
ذلك يمكن تلمسه على صعيد عالمي:
البارحة، وللمفارقة..
كان اليوم العالمي لحقوق الإنسان
الحقوق هذه في الكتب والبروتوكولات مصفوفة
على الرفوف
أم الضائع فهو الإنسان . ص 76.
مشهد مركّب من تناقضات.. وجد مكاناً له أساساً في صفحة الكاتبة الفيسبوكية، كما أشارت إلى ذلك ، في 11 كانون الأول 2015 .
ذلك يستدعي تدقيق النظر، وتعرية علاقات، مفارقات، وحالات كهذه، والمثقف أول من ينبغي مطالبته بذلك. أن يكون المتحري لقيم مزيفة من هذا النوع.. إنما في الدائرة الكردية، أي مثقف يمكن التحرك إليه، وتسميته، وهو في موقع لا يحسد عليه محاربة دور، ومحاصرة وعي؟
تقول مزكين:
دون شك، يطلَب من المثقفين أن يكونوا أصحاب مواقف وصريحة وصوت الحقيقة.
أن يكونوا حياديين ..
جهتهم هي المصالح الوطنية والإنسانية…إلخ.ص99 .
من المؤكد أنه دور كبير، ولكن متى كانت الثقافة تعرَف بوزنها دون هذه المجاهدة، هذه الحمْية الروحية، وهذا التجاوز للأنانية، والفئوية، والتحزبية..؟
أي نسبة تمثّل الكرد في المضمار الثقافي المنشود بالصيغة المقدَّمة آنفاً؟
من يكون المثقف حقاً
لا تخفي مزكين اهتمامها بالثقافة الفعلية، وكيف يجري العمل باسمها، وتفعيل أثرها.
لا تحدد أحداً. إنما تحدد من ينبغي أن يحمل صفة المثقف إن تمثّل التالي:
من يقرأ بدقة…
من يقرأ  الأحداث عن بُعد..
هو الذي تتقد نار الترحال في عقله ووجدانه..
بالطريقة يزداد اعتقاداً  بوحدة الوجود
ولا يشعر بالوحدة قط.
لأن هناك معنى واحداً للوحدة، حين لا يعرف كيف يملأ فراغه، حيث يملأه بالمعنى . ص132.
ولعل وجود أمثال تذكّرنا بمن كانوا قبلنا، يعزّز هذه اللحمة المشتركة ثقافياً، والتاريخ يوفّر مثل هذه الأمثال ذات الدلالة هنا وهناك:
دون شك.. كان آباؤنا وأجدادنا يقولون :
( فلان نايم على أذنيه : كردياً: فلان مقيم في أذن الثور “
هناك آلاف الحالات التي نراها ونسمع بها..
وهو ما نراه في الكرد، حيث إنهم اليوم مأخوذون ببيريكفون، فيسبوك، فاس تايم، والواتساب..إلخ..ص176.
لعل الذي أشير إليه هنا، يشكل الثقافة الحسية وفي طابعها الغريزي المدمر والمتجاوب مع تلك الضحالة الثقافية، وما في ذلك من ابتذال في الصور وفبركاتها، وأشكال الكلام السوقية إجمالاً والمنتشرة في جهاتنا وفيما بيننا.. وليستمر حِداد الثقافة إلى أجل غير مستمر..
وحتى فيروس كورونا لن يقهر الكرد
من مشاهدات مزكين، من مكاشفاتها، ومن مكابداتها النفسية في النطاق الثقافي، وكيف تظهر الثقافة في هيئات، مشاهد، توضعات، أشكال وألوان .. وتترجم مواقع الآخذين بها ومكانتها، تلك الصرة التي احتوت على واقعة تنتمي إلى وقائع كثيرة ذكِرت في الكتاب لا تخفي سلبيتها، وفي عالم اليوم، وتكون شاهدة على أنه يلزمنا الكثير لنعرف القليل مما نعيشه هنا وهناك بدقة.
حيث تحضر عزاء على إثر وفاة أحدهم ضحية كورونا.. حيث اتخذت الإجراءات المطلوبة صحياً.. ورغم ذلك صدمها أحد الموجودين من الكرد كله ثقة من نفسه، وهو ينبري ويقول بصوت مسموع ما ” يضع العقل في الكف ” وقد أشار إلى أن كوارث كثيرة لم تتمكن من قهر الكرد: الأنفال، والفرمانات ولا غاز الكيماوي والخردل…إلخ، فكيف بالكورونا يستطيع قهرهم..
قال ذلك ليطمئن الحاضرين على وجوب أن يطمئنوا على صحتهم دون خوف من الكورونا..
مزكين كما مهدت لصرتها بمثال كردي لا يخفي طرافته، أترجمه بصورة تقريبية:
(  ألا تعالوا أدخلوا رأس هذا الحمار في هذه الحلقة الضيقة ؟!)
تعبيراً عن استحالة إتمام العملية. أي لا يمكن قبوله جهة المتكلم والمتفاخر ذاك..
ولأن واقعة كهذه تعرّف بحضور من هذا النوع ومن قبل الكرد أنفسهم:
إذاً كيف يمكن لوم الآخرين؟
أي حيث يكون أولئك الجهلة، السذج، والأمّيون..ص208 .
يمكن لأي كردي واع، للكردي الذي يعيش الحياة، وتفاعل معها وفي عالم اليوم تحديداً، أن يتنبه إلى تلك الأخطار التي تحدق به، ومن قبل بني جلدته، وحيث يكونون ضد هويتهم بالذات .
تعلّمنا الثقافة كيف نكون في مستوى الحياة الفاعلة والمبدعة، وتعلّمنا بما لم نعلم بعد.
تعلّمنا الثقافة بمن يكونون عالة عليها، ومحتكرين إياها، وباسمها يطاردون رموزها الكبار..
أليس هذا ما أرادت الشاعرة الكردية مزكين حسكو نشره على ملأها الكردي بجلاء؟
إذاً” إين نحن في الاختلاف الإبداعي والتنوع الثقافي، من نحن” القطيعي ” المأثور بيننا على أكثر من صعيد؟
” يتبع “

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…