الإنصاف الغائب

صبري رسول
يهاجم الزّميل دلدار بدرخان في مقالة منشورة في ولاتي مه وعلى صفحته في الفيس بعنوان «كلمتان عن الشاعر الراحل جكرخوين وما أثير حوله من لغط» الذين انتقدوا السّيد جمال حمي في مواقفه المسيئة للشّاعر جكرخوين، واصفاً إساءات حمي بـ«النقد الموضوعي» ويرى قراءات بعض المثقفين الكُرد لنصوص حمي بأنّه نوعٌ من التّنمّر «استأسد الغالبية السّاحقة من الكورد مؤخراً على مواقع التّواصل الاجتماعي دفاعاً عن الشاعر الكوردي جيكرخوين بسبب النقد الموضوعي الذي أثاره الأخ جمال حمي بحق الشاعر الكوردي جيكرخوين»
هنا ينبغي توضيح بعض الأمور، ولا بدّ من التمييز بين الإساءة والنّقد الموضوعي:
لا أعرف كيف استأسد الكتاب على جمال حمي؟ وهل كان تحالف هؤلاء ضده، وتنمّروا عليه ظلماً وعدواناً؟
لو تناول حمي نصوص جكرخوين واستكشف فيها بآليات نقدية الضّعف الشعري، ومواطن ابتعاده عن الشعرية، وتوصل إلى خلاصة أنّ مجموعاته السبعة لا تمتّ إلى الشّعر بصلة، كنا سنقول بأنّه فتح آفاقاً جديداً في نقد الشعر الكُردي. لو استكشف فيها مواقف سياسية أو فكرية تسيء إلى النّضال الوطني والاجتماعي لشجّعناه على الاستمرار ونقد شعراء آخرين.
هل يمكن وصف ما يقوله حمي بالموضوعي كما في العبارات التالية:
«هل هناك رجل أوقح من هذا؟ وهل حقًا هكذا شخصية معتلة نفسيًا ومريضة تستحق أن نتخذها رمزًا وطنيًا لنا؟»
المُدهش في الأمر أنّه يرى أنّ حكمه على جكرخوين كان مُنصفاً، طبعاً هنا التعقيب لا يكون على إلحاق مفرد «الإلحاد» به، فهو لم يتّخذ الدين منهجاً له، وكان يحلّل التطورات السياسية والحياتية بمنهجٍ علماني، وهذا شأن غالبية المثقفين العرب والكُرد، بغضّ النّظر عن انتمائهم الحزبي أو السّسياسي. يقول الزميل دلدار بردخان: «وقد أنصف في ذلك حينما قال عنه أنه لم يكن مؤمناً مسلماً وإنما أتخذ من الإلحاد منهجاً فكرياً له».
يقيناً لو اكتفى بوصف إلحاده وعلمانيته لم يكن وارداً أن أحشو أنفي بموضوعه، فالشّعر ونقده ليسا من موضوعات كتاباتي، لكن تهجّمه الشّرس على هذا الشّاعر وجنوحه إلى خيالات الماضي البعيد، وإصدار أحكامه عليه وعلى سلوكه من منطلق عدم تديّنه أمرٌ غير منصف، بل دلالة واضحة إلى جعل الثّنائية التّضادية «الإيمان والإلحاد» ميزاناً في محاكماته، وهذا أمر في غاية الخطورة، لأنّ في سمألة النضال القومي يكون المقياس مدى خدمته لهذا النّضال ثقافياً وسياسياً، وليس الحكم عليه بالسوء لأنه لا يمتثل إلى العبادات، لذلك هل يمكن أنْ نقول أنّ حكمه كان مُنصفاً كما وصفته؟ هل هذه العبارة إنصافٌ لجكرخوين؟ «أما دورنا فهو تبيان حكم الله في أمثال هؤلاء للناس، وكان لابد لنا من تبيان حقيقة هذه الشخصية المريضة، لأن الكثير من الناس مخدوعون به… أما نحن فنراه رمزًا من رموز الفساد في المجتمع الكوردي وعليه من الله ما يستحق»
لا يكتفي بذلك، بل يرميه بصفاتٍ مخجلة، وهل يرضى النّاس بأنْ يُوصَفَ شاعرٌ ما أو إنسان ما، بـ«التّافه» لأنّه غير متدين؟ رغم تقديمه خدمة جليلة لثقافته القومية ولغته.؟
«بأنه وعلى الصعيد الإنساني كان رجلًا تافهًا وسيء الخلق والأدب مع الناس». ألا يعني هذا التوصيف تشدّداً فكرياً؟ ماذا تعني محاكمة الموتى بسبب فكره وموقفه السّياسي؟
إنّ بداية ظهور مسألة التكفير كانت في عهد المأمون الذي تبنّى فكر المعتزلة ومنها موضوع خلق القرآن، والسلطات الاستبداية من طبيعتها فرض أفكارها على المجتمع وبناء على ذلك اعتقل أحمد بن حنبل نهاية القرن الثاني، لعدم خضوعه لفكر المأمون.
فقدبدأت معركة شديدة بين أنصار الحنابلة وبين جماعة المعتزلة التي سُميت بجماعة البدعة، بعد مجيء المتوكل وتنصيره للحنابلة (أهل السنة) وفي هذه الأجواء ترسّخت نظريات الفكر المتشدّد المتمسك بالنصوص كما يفعله حمي وأنصاره. ومن سمات هذا الفكر الدعوة لاستعادة الخلافة ومحاربة الفكر العقلاني وهذا ما فعلته داعش.
وجاء ابن تيمية ليضع القواعد الأساسية لتيار التكفير، وتعميق الانقسام والإقصاء، ودخل العالم الإسلامي في عهد الانحطاط الحضاري. القصة طويلة جداً، وإعادة إنعاشه تولاها التيار التكفيري في العصر الحديث على يد حسن البنا، وتنظيم القاعدة وداعش، وهناك دولٌ تقف وراء ذلك.
إذا وقفتَ في منتصف المعركة يا زميلي بدرخان من باب تبيان الحقيقة، فأنت مخطئ، وإذا كنتَ تناصر السّيد حمي من حيث لا تدري فأنت مخطئ ثانيةً، أمّا إذا كنت تدري وتشجّعه على تناول الملحدين الكُرد وفتح معارك «الرّدة» وتقود أحد أجنحة جيش «الفتح» وغزوة «غصن الزّيتون» وغداً قد تكون غزوة «سنبلة القمح» فهذا أمر في غاية الخطورة.
يقود الكُرد الآن معركتهم القومية سواء بالنّضال السّياسي أو العسكري، ولسنا في أزمنة الفتوحات. كذلك سأبيّن أمراً آخر: إنّ الهجوم على ب ك ك وسياسياته لا يبرّر الهجوم على الثقافة التنويرية الكُردية، وموقفي واضح وصريح من سياسات الحزب العمال الكردستاني وأجنحته السياسية (ب ي د) والعسكرية، ونعرف أنّ ساحته الأساسية هي كردستان الشمالية، وتدخّله في شؤون الأجزاء الأخرى يقوّض النّضال الكردي، وفرصه المتاحة. كما أنّ الاحتماء بعباءة الشّخصية الكردستانية السّيد مسعود البرزاني، الذي يُعدّ مرجعاً سياسياً كُردياً، والبوصلة الحقيقية نحو الاتّجاه الصّحيح لا يبرّر أبداً فتح معارك جانبية وإلهاء الشّارع الكردي والسّاحة الثقافية بها.
لذلك السؤال الذي يطرح نفسه: هل وضعنا الميزان الدّيني وبه نحاكم النّاس حتى نأتي ونحكم عليهم بالإلحاد أو الإيمان؟ ما المناسبة في ذلك؟ كيف تجد ذلك «عين الصّواب»؟ حيث ورد في النّص الذي تشجّع حمي على هذا المنهج:
«وما قاله الأخ جمال حمي من منطق ديني كان عين الصواب، لأن عدم الإيمان بوجود الله وشريعته هو الإلحاد». 
الخطأ الجسيم أنّ مثل هذه الإطروحات تفتح باب الجحيم على النّاس، وندخل متاهاتٍ لا نعرف سبيل الخروج منها، ولا داعٍ لمثل هذه الآراء في الوقت الحالي. إذا أقمتم دولة إسلامية وأحكمتم النّاس تحت شعار «الخلافة هي الحل، أو الإسلام هو الحل» حينها يحقّ لكم نفي المخالفين أو سجنهم أو الحكم عليهم بقطع أرجلهم.  طبعاً من حقك ألا تجد نقده خطأ، ومن حقك أن تستغرب في الأمر «فما الخطأ في الموضوع حتى أقمتم الدنيا ولم تُقعدوها؟»

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

يأتي الاسم- هكذا- ممتلئاً دافقاً بالبشرى بما يكفي ليشغل فضاءً واسعاً في ذاكرة الإبداع، والتشبث بالوطن وجباله وسهوله. دروبه. قراه. مدنه. وجوه ذويه. مزكين حسكو ليست مجرّد أديبة شاعرة وساردة تكتب قصائدها وأدبها بلغتها الأم، بل جذرٌ عميق في تربة القصيدة الكردية، فرعها الذي لا ينحني مهما تبدّلت الرياح. لم تأتِ من الهامش، بل…

عصمت شاهين الدوسكي

الاحساس المرهف يفجر المشاعر المكنونة والآمال الميتة

كلیزار أنور عندما فتحت عیناھا للحیاة وعرفت بعض أسرارھا، قاومت كل الأشواك التي تحیى حولھا ،أبت أن تكون نرجسه نائیة ، جرداء ، بلا نور ، خرجت من بین الطلاسم المظلمة لتغیر ذلك الهواء بهواء نقي وترفض التقالید الفكریة البالیة ، رسمت لنفسھا طریقا وعرا، شائكا، غائرا…

عبد الجابر حبيب

 

خطوةٌ واحدةٌ منكِ،

تكفي لتهوي الأبوابُ الثقيلةُ

التي حُشرتْ خلفها حكاياتُ الألمِ.

 

بخطوةٍ أخرى منكِ

سينهارُ الهرمُ المشيَّدُ فوقَ صدورِ الجائعين،

وتبتلعُ الأرضُ عذابَ البؤساء.

 

حتى بإيماءةٍ منكِ،

تعودُ إلى أصحابِها

مفاتيحُ المدنِ المفقودةِ،

ويجفُّ الحبرُ على النهاياتِ القديمةِ،

وتنفكُّ الأقفالُ عن السجونِ

دون أن يلمسَها أحدٌ.

 

بهمسةٍ منكِ،

واثقٌ بأن أصواتَ القتلةِ ستختفي،

ويذوبُ صليلُ البنادقِ

في فراغٍ لا حدودَ له،

وتسقطُ تماثيل اعتلَتْ عروشَ يأسِنا.

 

نعم، بمجرّدِ حضورِكِ،

يتمزّقُ…

إبراهيم سمو

شعرية الجرح والتحوّل أو ثلاثية التمرّد والرومانسية والمفارقة:

يشكّل شعر سعيد تحسين صوتا متفرّدا في مشهد الشعر العربي الحديث، يتميّز بقدرته على التوليف بين التوتّر الداخلي والاختراق الجمالي، بين الحُلم والخذلان، وبين اللغة بوصفها خلاصا، والوجود بوصفه سؤالا معلّقا.

يغترف “مهندس الأعمال الشعرية الكاملة” جوهر قصيدته من حواف الذات لا من استقرارها؛ حيث يتقاطع العاطفي…