شاعر وقصيدة.. سعدي عبد الكريم وقصيدة (الخارطة)

عبد الستار نورعلي:
  سعدي عبد الكريم الفنان والكاتب المسرحي الذي عُرضِت مسرحياته في العديد من المهرجانات العربية، والتي نالت الاهتمام والجوائز، هو أيضاً الفنان التشكيلي، والناقد الأدبي الكبير، والشاعر الذي خرج عن عباءة مناهج البلاغة الكلاسيكية التقليدية وبيانها وبديعها، البلاغة التي اثقلت كاهل القصيدة العربية قروناً طويلة، ممّا دفع الكثير من الشعراء المعاصرين إلى التسلل من تحت ظلال تلك البلاغة إلى فضاءات أوسع؛ للتخلص من ثقلها الخانق لحرية الشاعر في تأسيس صوته الخاصّ الحرّ المنطلق في عالم اللغة الواسعة الغنية بما تمتلك مفرداتها ومعانيها كنوزاً زاخرة بالصور التركيبية، والثراء المعنوي والاشتقاقي الصرفي الدلالي، وتعبيرها الدقيق عن الأشياء والأحياء والأحاسيس والأفكار، 
مما يمنح الكاتب والناطق مساحةً واسعة في القولِ والتعبير عمّا يختمر في نفسه وفكره وأحاسيسه وعواطفه، وبذا تفجّر طاقة الشاعر الكامنة لاستخراج هذه الكنوز وصياغة جواهرها قلائد تزيِّن جِيد الشِعر، وبأبسط الوسائل اللغوية المتاحة لصانع الكلام البديع، وبأسهل الطرق الموصلة إلى ذائقة المتلقي، وبجمالية وبريق يأخذ بالألباب والعقول، ويهزّ الأحاسيس. ثم يستقرّ في نفس المتلقي جوهرةً مُشعَّة، يصونها في حافظته خزيناً جمالياً يهذّب اختياراته، ويقوّم ذائقته، وينقّي روحه ولغته. 
    ومن خلال ما ذكرتُ أعلاه، حين نقرأ نصوص سعدي عبد الكريم الشعرية، نلتقي بهذه الظواهر والإشارات والصياغات، والقصيدة قيد القراءة مثال. 
 فأول ما نعثر عليه ونحن نقرأها هي التورية الحاذقة:  
الوطن – العراق – هو الأمّ الرؤوم، بمحبتها وغلاوتها، وحضنها الدافئ الحصين، وحنانها وعطفها، وحرصها الشديد وخوفها على أبنائها الى حدّ التضحية بالنفس والنفيس من أجلهم ولخيرهم وسعادتهم وسلامتهم ومستقبلهم المأمول. وحين يكون الوطن مُمثَّلاً بالأم نجد ما يحثُّ الوطنيّ الغيور على أن يهبّ للدفاع عنه الى حدّ التضحية بالغالي  والنفيس، عندما يشعر أنّ الوطن كالأم يحتضنه بحنان ودفء وحرص.
 
  أمّا العباءة السوداء فهي رمزٌ (تورية) عن الأحزان، وإشارة الى الموت بالذات، الموت الذي جرّه تاريخ مليء بالحروب والاحتراب، والأحداث الجسام، وظلم الحكام، والموت الزؤام، وراء القضبان أو بالإعدام، وبانتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة – كما اليوم – إضافة الى الغزوات بسبب الأطماع وغير الأطماع من صراعات المصالح المتضاربة، ممّا راح ضحية كلّ ذلك أرواحٌ كثيرة، وسالت دماء غزيرة، بريئة وغير بريئة، وما زالت. مثلما خلّفتْ خراباً في العمران والأرض هائلاً متعمَّداً ومخطّطاً. 
 
  هذه التورية البلاغية هي مركز الدهشة وجمالية النصّ، وإشارة المخيال الفنيّ الثريّ الواسع، والعابر للمتداوَل التقليدى إلى الالتقاط غير العادي، بمعنى ما خلف المنظور الجاهز في اللغة، بتاريخها الشعري المتوارث والمتراكم الصوري والتركيبي فيما تناوله الشعر عبر عصوره المختلفة ببيانه وبديعه المنهجي، وبصياغاته اللغوية المنهجية الصارمة، والقاموسية المُعقّدة، كما وصلنا. لكنّ التجديد،  الذي هو سمة المعاصرة بكلّ فنونها وأجناسها، هو في خلق غير المعتاد والمألوف من الميتاخيالية، وصياغة صور تعبيرية صادمة بلاغياً وشعرياً وحسّياً وخيالاً، وذلك بنسج لوحة جمالية تجذب التفاتَ واهتمام ذوقِ المتلقي الباحث عن الجمال، وما يهزّ مشاعره وأحاسيسه ورغائبه، ويُثري خياله، ويُخرجه من دائرة قضبان الماضي المعتقِلة لوعيه ومداركه ومخياله من الولوج إلى فضاء الانفتاح البصري والوعي البصيري، دون الالتفات إلى المغالق والمقالع اللغوية والصياغات الأكسپاير، التي أكل الدهر عليها وشرب حتى ثمالة التخمة الذوقية. 
  
   قصيدة الشاعر سعدي عبد الكريم (الخارطة) – قيد القراءة هذه – قصيدة مكثَّفة مُركّزة، يقول فيها الشاعر ويرسم ويصوغ الكثير من قلائد المعاني والصور، وهو ما نكتشفه خلف ألفاظها وتركيباتها اللغوية، وسردها الشعري (فهي قصة شعرية) من غزارة المضمون، وعمق الكلام الذي يلتقطه النظر الاستكشافي، دون أنْ يُدخلنا عبد الكريم في دهاليز التفاصيل المُملّة المترهلة، التي تُفقِد القصيدةَ بهاءها ورونقها، وشعريتها، وحلاوة مذاقها، ودهشتها، ومفاجأتها الفنية، وهي الضربة البلاغية المُحدَثة الناجحة بامتياز في خاتمتها: (رسمتُ أمي…)، وهو ما يُبقيها محفورةً في ذاكرة وحافظة المتلقي الجمالية، والواعية التمثيلية، مثلما تعارف على تسمية مثيلاتها قديماً ببيت القصيد.  
القصيدة: 
(الخارطة)
سعدي عبد الكريم
أذكر حينما كنتُ صغيراً 
بعمر عيون جارتنا اللامعة 
كنت حينها في الصف الرابع 
قال لنا معلم الرسم: 
ارسموا.. خارطة العراق
  ودون تخيّل مسبق 
رسمت امي.. 
وهي ملتحفة بعباءتها السوداء
عبد الستار نورعلي
آذار 2024 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…