دراسة مقارنة بين ديواني الشاعر رشيد عبّاس «أثقلت بالهواجس أغنيتي» و«على ساحل القلب»

ريبر هبون
الديوانان طبعا في ذات العام 2022 عن دار الزمان بدمشق، وينحازان إلى شعر التفعيلة، متعدد القوافي والموسيقا، راحت فيه الصور تتدفق ما بين حسية ومعنوية وعناوين القصائد في ديوان أثقلت بالهواجس أغنيتي غلبت عليه الصور المعنوية، عدا تلك الوقفات الطللية قرب الغروب، عند النافذة على مقربة من باقة الورد والعين تتجه إلى المسير حيث المياه والسبر الرئيسي لتلك القصائد هو الذهاب للماضي ومعاينة الذكريات، مستفيداً من وقفة شعراء الجاهلية على الأطلال في نعي رحيل الأحبة، حيث فعل رشيد عباس ذات الشيء في قصيدة لا أعرفهم ص 15 : كالنجم يوم تعثروا
. بالليل إثر الليل/ أقصد عندما اشتد الظلام وآثروا/ ألا يضيع نداؤهم في البحر حين تبعثروا
ذلك أقرب لبوح امرء القيس: وليلٌ كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فيالك من ليل كأن نجومه / بكل مغار الفتل شدّت بيذبل  
استناداً لرأي الناقد الدكتور عامر الأخضر عندما يقول : „ لا يمكن النظر إلى أية قصيدة من دون التصور أن لها ذاكرتين، إحداهما تنتهي مع بداية زمن النص وتضرب جذورها بعيداً، لتشمل مراحل شتى، بدءاً بنشوء الوعي لدي الناص، والثانية هي ذاكرة القصيدة التي تتقاطع مع ذاكرة الشعر في ماورائياتها” -ملحق الخليج الثقافي -سبتمبر
.2011
لقد استند رشيد عباس في هذا الديوان على الذاكرة وتلك الإيحاءات الدالة على عظم علاقته بالناس، الأصدقاء ، الأقارب، الأمكنة، محطات الوداع والمرأة، بما يحملونه من فضاء شجي يبعث على الشعر، يتسم هذا الفضاء بأنه ولاّد بكائنات شعرية تنتمي للحزن والكآبة، وهم عكازات يستند عليها الشاعر في تجربته الشعرية هذه ، حيث لا يمكن إخفاء ثقافة الشاعر التراثية عندما نقرأ هذا الديوان لنجد مناخاً صحراوياً طللياً يختزل شعراء الجاهلية وتنقلاتهم
. وتحسراتهم هنا وهناك بحثاً عن الخلاص
فالمفردات تنتمي لحقبة قديمة “القافلة – الصحاري – الرمال- الخيمة – الظعائن – القطا 
الصور الشعرية في ديوان أثقلت بالهواجس أغنيتي تنحاز للطبيعة الريفية بتطرف : ص 48 : في مكان ما على بعد
. سراب من هنا/ رنَّ بصدري جرسٌ أيقظ نهراً/ راح يجري في البراري
ص 59 : غرفة للدراسة/ طاولتان/ ثلاث نوافذ للضوء/أو للرياح/وبابٌ يواجه باب/ واجهتني الدروب/ وشيرين تعرف
. معنى اليباب/ وجنتاك مسافرتان/ على زورق في الضباب
ص69 : الوميض الذي شع/ برقٌ ينير ويحرق/نافذتان اثنتان/ تطلان خلف زجاجهما امرأة /منهما تتسلل أو فيهما
. تتدلل
نلحظ متانة تلك الصور بحيث أنها جاءت بروية لترسم في ذهن المتلقي صورة سينمائية بعدسة الكلمات التي راحت وباحترافية تنقل تلك الصور لتضعنا في جو أشبه بالحلم واليقظة، وضع الشاعر قصيدة غنيت كما شئت كقفلة لديوانه ولعلها من أكثر القصائد حزناً لغاية أن يضع القارئ في جو الأسى الذي يعتمله حيث جاءت هذه العبارات حزينة ودقيقة في وصف المكامن: بقلبٍ أسيرٍ وعينين أبكي/ وما لحظة أطفأ الدمع ناري/ تركت المناديل خلفي وقد لوحت لي تمهل ..تمهل/ فما شئت أن أسرق الطرف نحو النداء، وأخيراً يقول هنا : أعيش على الذكريات / وذكرى السنين وقود
. الفرارِ
.إنما تناسب نفسية كل مودع أو مهاجر يحاول عدم الالتفاتة للوراء كيلا يبكي
:”على ساحل القلب ” جمالية المكان-
لقد وظف رشيد عباس المكان لديه في الشعر وجعله بوصلة من خلالها يتم اكتشاف ما بالكنة والتصور من رؤية مفصلة للذات والعالم السائد، فالنهر هو العلامة الدالة على مرايا الشاعر وعمق انشداهه بالمكان، ص 15 : بيتنا
. والحقل مرآتان في الريف/ تنيران الزوايا
حيث ينشغل الشاعر في هذا الديوان بالحوار وعقد الجسور ما بينه والآخرين حيث نجد تلك الأسئلة المفتاحية العاكسة رغبة الشاعر الهوجاء في المسير باتجاه ما يشغل النفس المرهفةـ: لا تقولي قد أتيت لذلك/ فضع كل الذي ضيعت تحت نعالك/لا تغر النساء بفالك/ أنا وبعض السائرين مع القطار كخالك/ كل الدروب إلى النهاية هالكة/كل
. الدروب إلى الحكاية سالكة
الموسيقا هنا في هذه النصوص المشارة تطفح بالتوثب وتدفق الحالة الشعورية التي لم تكن سائدة في الديوان السابق حيث انتمت لحقبة الوداعة والاستسلام للذاكرة بعكس ديوان على ساحل القلب فقد بدا أكثر صخباً ورغبة في الدخول لعوالم أخرى واستكشاف ما خفي من الحياة، أما الغزل المستحدث عن تجارب القدامى فجاء مطواعاً رقيقاً وجلياً، ص 49 : آفة الدنيا انكسارٌ ووداعٌ/ ومواويل على الدرب الطويل/ كل من غنى بيوم وتمنى/ راح يبكي..هكذا
. غرّد جيلي
ديوان على ساحل القلب بات يغادر الريف باتجاه المدينة ص 53: المدينة ما ارتكبت خطأ/حين مرت علي/لا أحب
. الشوارع/ تخطفني يدها من يدي
:خلاصة-
كلا الديوانين يعكسان المكان بما يحمل من عبور واستكشاف لدواعي الكتابة الشعرية من محاولة لفهم الكون وسبر سبل العيش فيها وتحويل الواقع إلى فن، ليسهل فيه العيش، تمايز ديوان على ساحل القلب عن الأول في أنه كان متوثباً جامحاً نحو الحياة والآخرين على عكس الأول الذي بدا فيه الكاتب أكثر تأملاً بل معتزلاً ومعتكفاً في صومعة التأني والوقوف على الأطلال حيث بات موغلاً في الماضي وتذكر المكان، باحثاً عن الذين غابوا مؤكداً على ذلك بأداة واو الجماعة أما ساحل القلب فقد بدا متعدد المناخات والموضوعات وقد تجاوز الأول من حيث ذلك العبور السلس
. بين المشاهد والأمكنة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…