آلان كيكاني
حلَّ الخريف على الرقة بعد صيف قائظٍ، وبدأ الطقس يعتدل فيها رغم هبوب العجاج بين الحين والحين من جهة الجنوب، جهة بادية الشام المنتهية بالصحراء العربية القاحلة الممتدة إلى تخوم اليمن. وعند الساعة الثانية من بعد الظهر في أول يوم تُفتتح فيه المدارس نزعتُ عني مئزري الأبيض وشرعت ألملم أغراضي تمهيداً للانصراف، لولا أن جلبةً صاخبة في الشارع المجاور أوقفتني وجعلتني أتمهل قليلاً وأتوقع أنَّ حالة طارئة لا بد في طريقها إلى عيادتي، وأنها ستتطلب عملاً شاقاً في الوقت الذي انصرفتْ فيه السكرتيرةُ قبل دقائق من موعدها المتفق عليه لترافق ابنتها الصغيرة من المدرسة إلى البيت.
فتحت النافذة وألقيت نظرة إلى الشارع. لم يخب ظني أبداً، ها هو نايف عواد المصلح، عامل البلدية في الحيّ منذ أن سكنته وأسست فيه عيادتي قبل أكثر من عشر سنوات، يحمل على ظهره رجلاً ينضح بالدم من رأسه حتى نعليه. لا أعرف إن كان حياً أم ميتاً، لكنه لا يبدي أية حركة أو مقاومة فوق منكبي عامل البلدية. ولولا اللون البرتقالي لزيّ نايف عواد المصلح لبدا هو الآخر مغطى بطبقة حمراء قانية من الدم، يتّضح ذلك من البلل الممتد من كتفيه إلى ركبتيه مروراً بصدره وبطنه. وحتى وجهُهُ لم يسلمْ من الرذاذ المتطاير من رأس الضحية المفلوج.
وها هم الناس يجتمعون حول نايف عواد المصلح اجتماع أسراب الزرازير على قرى النمل عشية الحراثة في فصل الخريف. إنهم خليط من الفضوليين والمتطفلين ومحبي الأخبار وفاعلي الخير يتصايحون في فوضىً عارمة مستفسرين عما جرى، وكيف جرى، وما الدافع وراء هذه الجريمة، ومن قام بالفعلة الشنيعة هذه في وضح النهار وسط شارع مكتظ بالناس، وما السبب في غياب رجال الشرطة حتى هذه اللحظة، وأين هي سيارة الإسعاف لتنقله إلى المستشفى. ثم منهم من يشمئز من منظر الدم المتدفق من رأس الضحية فيرتد على أعقابه ويولي الأدبار مرتجف اليدين عابس الوجه. ومنهم من يمد يد العون إلى نايف عواد المصلح مخففاً عن كاهله عبء الرجل المصاب. ومنهم من يتجرأ على الضغط على الجرح بمنديل في يده في محاولة منه لإيقاف بركان النزيف. ومنهم من يهرع إلى الحوانيت المجاورة لجلب الماء أو الكحول الطبي أو المحارم الورقية، عله يساعد في شيء ما. هكذا هم الناس، في ذروة الحماس، وفي أوج الاندفاع، حتى فاقدو الأذرع منهم يتحولون إلى مقاتلين شرسين سعياً وراء شرف إدراج أسمائهم في قائمة الأبطال المنتصرين.
على عجل وضعت يديّ في قفازين، وهبطتُّ الأدراج دون مئزر، وعند باب البناية التقيت بنايف عواد المصلح يتصدر الطابور البشري الممتد إلى الجانب الآخر من الشارع مترنحاً تحت ثقل جسد الضحية. رجوت الناس أن ينصرفوا، فانصرف جلهم، وبقيت فئة منهم ساعدتنا في حمل المريض حتى باب العيادة في الدور الأول.
بدا الرجل في غيبوبة عميقة، لا صوت يصدر منه، ولا حركة، ولا إيماءة. وعلى قمة رأسه جرح كبير، غائر، متهتك، يمتد إلى عظام الجمجمة، وربما يتجاوزها إلى الدماغ. بيد أن العلامات الحيوية دلت على استقرار حالته في الوقت الراهن. لكن مثل هذه الحالة آيلة للتردي في أية ساعة، بل هي مرشحة للموت بنسبة كبيرة.
“ضربه شاب في مقتبل العمر ببلطة كانت في يده وفر هارباً”. قال نايف عواد المصلح وهو يلهث، بعد أن وضع المريض على السرير وتراجع خطوتين إلى الوراء، ليتيح لي المجال لفحصه، والعرق ينز من جبينه ويغمر عينيه ووجنتيه ثم يقطر من ذقنه.
ثم أضاف بعد أن استعاد أنفاسه ومسح وجهه:
“كنت مشغولاً بجمع أكياس القمامة، بينما كان يقف هو على الرصيف المقابل وفي يده باقة من الزهور. شدني مظهره الغريب فراقبته عن بعد، وبعد قليل وقفتْ بجانبه صبية تحمل رزمة من الكتب، لاح من زيها أنها طالبة في الثانوية، وتبادلتْ معه بضع كلمات بدت أنها ودية، ثم تلقفت من يده باقة الزهور، وقبل أن تودعه هبطت بلطة على رأسه من الخلف فخر ساقطاً، ونفر الدم من قمة رأسه، وهرب الجاني، فيما صرخت الفتاة مذعورة ورمت كل شيء في يديها ولاذت هي الأخرى بالفرار، وحتى عابرو السبيل انفضوا عنه في البداية مصدومين ومرعوبين…”.
“فتملكتك شهامة وهرعتَ لمساعدته. أليس كذلك؟”. قاطعته وأنا أحشي الجرح بشاش معقم.
“هذا ما جرى، يا دكتور، ثم تجاسر الناس على الاقتراب، فاجتمعوا حولي وأعانوني على حمله”.
بعد إرقاء النزف من رأس المريض، والتأكد من سلامة صدره، وقلبه، وأطرافه، والاتصال بفريق الطوارئ لطلب النجدة والإسراع في نقله إلى المستشفى الوطني العام، شرعت أزيل الدم عن وجهه ورقبته وأذنيه وفروة رأسه وكتفيه وأجزاء من صدره وبطنه. لكأنني بذلك قمت بإزالة الملاط عن قطعة أثرية قديمة تم العثور عليها في باطن الأرض. فها هي ملامحه تتضح لي بصورة جلية:
شعره وشاربه وحواجبه المصبوغة بعناية، ووجهه المحلوق بمهارة، وأسنانه الاصطناعية البيضاء اللؤلؤية، لم تستطع أن تهزم تجاعيد وجهه الممتدة من عينيه الغائرتين إلى لغْدِه المتدلي من أسفل ذقنه، ولا الأسارير الحادة المتزاحمة على جبهته ورقبته بفعل السنين.
وقميصُه الأزرق المخطط بخطوط صفراء وأخرى حمراء، والمخضب بعطر شبابي فواح ما كان له أن يستر تلك الزغابات البيضاء القليلة المتبقية على صدره ولا على جلده الهشّ المقشور بحكم الزمن.
وساعتُه الإلكترونية الكبيرة ذات الأزرار الكثيرة والعقارب المتعددة والنافرة من رسغه الأيسر لم تستطع أن تخفي ذلك الإهاب المترهل الشبيه بعرف الديك الممتد من معصمه إلى محاذاة مرفقه.
كما لم يكن في وسع بنطاله الجينز ذي اللون الأزرق الفاقع، وحذائه الرياضي الفاخر ذي الألوان المتعددة، وحزامه العريض المطعم بقطع معدنية، والسلسلة الفضية الناعمة المحيطة بجيده، أن تبرهن على أن عمره يقلّ عن الخامسة والسبعين.
“كيف هي حالته دكتور؟”. سألني نايف عواد المصلح.
“حرجة، مع الأسف، يا نايف”.
“أتظن أنه سينجو؟”.
“العلم عند الله، لكن إصابته شديدة، وهو بحاجة إلى التصوير المقطعي للرأس للبتِّ فيما إذا كان هناك نزف داخل الجمجمة أم لا. إلا أنَّ كل الدلائل ترجح حدوث مثل هذا النزف”.
“وهل سيموت حكماً إذا ثبت وجود مثل هذا النزف؟”.
“الأمر يعتمد على كمية الدم المتجمع داخل قحفه وموقعه، فإذا كانت هذه الكمية كبيرةً، قامت بالضغط على المراكز المتحكمة بالقلب والرئتين، وربما أدى هذا إلى توقف هذين العضوين الحيويين عن العمل… لكن هناك دائماً فرصة للحياة، يا نايف، دعنا نتفاءل، فإذا تم التداخل الجراحي عليه في الوقت المناسب، وأزيل الدم عن دماغه، فقد يعود كما كان. وقد تراه بعد حين يقف مرة أخرى على الرصيف ينتظر فتاته وفي يده باقة من الزهور”.
ابتسم نايف عواد المصلح، كاشفاً عن أسنانه الصفراء بفعل الإفراط في التدخين، وتمتم وهو يمسح الدم عن يديه:
“أتمنى أن أراه في نفس المشهد، يا دكتور، لكن دون أن تهوي على رأسه بلطة أو فأس، كان مشهداً مؤلماً حقاً”.
ثم استأذن، ومضى إلى الحمام ليتطهر من الدماء العالقة على بدنه، فيما رحت أتأمل الرجل الممد أمامي على السرير الطبي والمتأرجح بين الحياة والموت، هذا العجوز الواقع في حب صبية في السادسة عشر أو السابعة عشر من العمر، والذي يقف على قارعة الطريق في وضح النهار، وأمام الملأ، وفي بيئة اجتماعية محافظة، ليراها بعد غياب، ويبارك لها عودتها إلى مقاعد الدراسة بباقة من الزهور. هذا الرومانسي الأنيق المدجج بروح الشباب والمخالف لنواميس أترابه الذين يرون في الوقار ضرورة لا بد منها، وإلا باتوا مبعثاً للسخرية، ومجلبة للعار على القبيلة كلها، والذين ما إن يبلغ أحدهم الستين، حتى يستعد للموت ويحسب ألف حساب لعذاب القبر، وأهوال القيامة، وجحيم الآخرة..
درت حوله أكثر من مرة أمعن النظر في خلقته من كل الزوايا، وأفكر:
ثمة وداعة فطرية في محيّاه، هي مزيج من الدماثة، والبراءة، والبساطة، وعشق الحياة…
وثمة سرٌّ دفين في ملامحه وتقاطيع وجهه هو تعبيرٌ عن سعيٍ دؤوب إلى جنةٍ لم يحياها في أوانها فأراد أن يعيشها في زمن آخر، زمنٍ أشبه ما يكون بالوقت المستقطع في مباريات كرة القدم، والذي يستميت فيه الفريق الخاسر في سبيل تسجيل هدفٍ يقربه من الفوز أو يقلص الفارق بينه وبين خصمه…
وثمة مفارقة عجيبة بين الصورة التي هو عليها، والسنُّ الذي هو فيه، إذ تحسبه طفلاً قد شاخ في غير أوانه. لكأنَّ الزمن توقف به في عمر المراهقة، فاستقرت روحه في ذلك العمر المبكر، بينما استمرَّ جسمه في النمو حتى بلغ الشيخوخة المتأخرة.
ولوهلة خامرني شكُّ أنه صبي صغير متنكر في جلد عجوز مترهل، لكن الأسنان الاصطناعية التي تزحزحت من موضعها بسهولة عند فحص فمه بددت شكوكي. هكذا بدت لي صورته، مزيجاً محيّراً من الطفولة والصبا والمراهقة والشباب والشيخوخة.
عاد نايف عواد المصلح من الحمام، ووجدني مواظباً على تأملي في خلقة مريضي وهيئته.
“أراك غارقاً في الاستغراب يا دكتور!”. قال.
“أليس هناك ما يدعو إلى الاستغراب، يا نايف؟”.
“بالنسبة لي لا”.
“لا؟”.
“نعم، لا”.
“كيف لا؟”.
“لأنني، أنا نفسي، بطل قصة أكثر منها غرابة”.
“أنت؟”.
“أي نعم أنا”. أجاب وعلى شفتيه ابتسامة خجولة.
أكثر من عشر سنوات مضت وأنا أعرف نايف عواد المصلح حق المعرفة، وأكاد أراه كل يوم، ويصدف أن أراه أكثر من مرة في اليوم الواحد، وأتبادل معه الأحاديث، بل ويتفق أن أجالسه لساعات على ضفاف الفرات على موائد السمك المشوي. وهو في نظري أديب وقاص وشاعر، لكنه يفتقر إلى المعرفة بأمور الكتابة، لأنه هجر مقاعد الدراسة قبل أن ينهي المرحلة الإعدادية، وقضى بعدها سنوات من عمره في السجن. ولهذا يستعين بي بين الحين والحين لتصحيح أخطائه الإملائية والنحوية في قصصه وقصائده التي يخطها بعد انتهائه من عمله اليومي في غرفته الضيقة في حيّ المشلب… وقد روى لي الكثير من القصص عن حياته، في السجن وقبل السجن وبعده، عن طفولته ويفاعته، عن أبويه وأخوته، بل وروى لي قصصاً عن حياة أناس آخرين في هذه المدينة وأريافها دون أن أطلب منه ذلك، قصصاً عن قبائل الرقة، وعاداتها، وتقاليدها، وحروبها، وغزواتها، وأخرى عن أبطالها، وشعرائها، وعشاقها، وأخرى عن أشهر الحكايات والأساطير الشعبية المتداولة فيها، وقد أعانتني كثيراً في مسيرتي الأدبية. لكنه لم يرو لي قط قصةً فيها ما يشبه قصة الرجل هذا. ما السّر في ذلك يا ترى؟ … ما السبب؟ … هل لأن فيها ما يحرجه أو يؤلمه أو يهينه…
لذتُ بالصمت وفي ذهني سؤال ممزوج بالعتب على صاحبي. لكن نايف عواد المصلح أذكى من أن يتغافل عما يدور في خاطري، فبادر إلى الإجابة قبل أن أسأله:
“أظنك لست بغافل عن حقيقة أن الناس عادة ما يتردون في سرد زلاتهم، وهزائمهم، ومواقفهم المخزية في الحياة”.
“أتفق معك في هذه، بالفعل يميل الناس إلى إخفاء إخفاقاتهم وسقطاتهم، حتى لو كانت بادية للقاصي والداني، ميلهم إلى رواية بطولاتهم وانتصاراتهم حتى لو كانت وهمية. هذه قاعدة اجتماعية عامة. لكن الذكريات المؤلمة المكتومة بإحكام تتخمر مع الزمن، يا نايف، وتغدو أكثر إيلاماً، وأشد تأثيراً على النفس والسلوك وطريقة التفكير، وفي بعض الأحيان تفضي بالمرء إلى الجنون، أو حتى إلى الموت، انتحاراً أو مرضاً…”.
“وكأنك تتحدث عمّا يجول في نفسي يا دكتور”. قاطعني كمن يستفيق من نوم.
“ومن دون إيجاد حلٍ مناسب لهذه الذكريات” تابعت وأنا أغرز إبرة المضاد الحيوي في وريد المريض. “لا يمكن التمتع بحياة هانئة أبداً. فهي تطنُّ في الدماغ ساعة السعادة، كما يطنُّ البعوض في الأذن ساعة النوم”.
“وما الحل برأيك؟”.
“سألتني ما الحل. أليس كذلك؟”.
“نعم، ربما كنتُ بحاجة إلى جوابٍ على هذا السؤال في هذه الساعة أكثر من أي وقت مضى. لا أخفيك أنَّ مصيبة الرجل هذا أعادت إلى ذهني ذكريات مؤلمة لا أستطيع التخلص منها”.
“حسنٌ. عن آلام النفس تسأل، وكيف يمكن تسكينها أو التخلص منها. تلك المتولدة عن تجارب مؤلمة خضناها في الماضي، لكنها مازالت تحزُّ في أنفسنا وتعكر صفو حياتنا في الحاضر. أليس كذلك؟”.
“بلى يا دكتور”.
“اسمع يا نايف، سأوضح لك الحل من خلال هذا الموقف الذي يتكرر معي بين الآونة والأخرى: لي صديقٌ حميمٌ تعرض لإهانةٍ في شبابه على يد أحد الأوغاد في الشارع دون أن يتمكن من الرد عليه في الوقت المناسب لأسباب خارجة عن إرادته، أو ربما لأنه استصغر الموقف حينها، ووجده غير جدير بالرد عليه، لكن مع مرور الأيام وتقدمه في السن استكبره وصار يتلمس فيه الذلّ كلما استحضره في مخيلته. ورغم أن صاحبي هذا في الخمسين الآن وحائزٌ على شهادة الدراسات العليا في الآداب، وأن الحادثة قد مضى عليها أكثر من ثلاثة عقود، إلا أنه يشعر بين الحين والآخر بالخزيّ والعار كلما تذكرها، وتخامره أفكار سوداء لا يستطيع التخلص منها، وقد توسوس له نفسه بوساوس تدفعه إلى التفكير بالانتحار حيناً أو اقتراف جريمة حيناً آخر، فيتصل بي، ومن نبرة صوته أدرك ما هو عليه، فأدعوه إلى زيارتي، فيأتيني مغتماً عابساً، وبعد ساعة من الدردشة على طاولة الزهر وارتشاف القهوة على أنغام سعدون جابر وإلياس خضر ينصرف منشرح النفس يضحك ملء شدقيه… أنا لا أجرّعه هنا دواءً، يا نايف ولا أتلو عليه رقىً، وإنما أحاول، في كل مرة يزورني فيها، أن أبرهن له أن اللوثة التي تحتل كيانه، وتشغل باله منذ ردح من الزمن هي تافهة وحقيرة، ولا تستحق التفكير بها، والانشغال بتفاصيلها، لأنه ما من أمرئ في هذا الكون إلا ويتعرض في حياته لصفعة من أزعر في الشارع، أو عبارة جارحة من سافل أمام الفرن، أو شتيمة بذيئة من فاجر دنيء في محطة الباص. فلو أن كل واحد منهم ذهب إلى ما يذهب إليه وفكر بطريقته، لآلت الحياة على وجه الأرض إلى جحيم لا يطاق. فيقتنع صاحبي بما أقول، وينصرف سعيداً. وإذا أبطأتْ عقدته في الانفكاك شرعت باختلاق مواقف شبيه لموقفه عن نفسي ورويتها له واضعاً نفسي في مكانه، فأستشعر في هذا أبلغ الأثر في نفسه… لهذا أقول ربما كان في سردنا لذكرياتنا المؤلمة لصديق أو قريب، نعزُّه ويعزُّنا، وتلقينا لعبارات المواساة منه، تقزيماً لهذه الذكريات، وإهمالاً لها، وتبديداً لتأثيرها السام على النفس. ثم ألا تتفق معي أنه من الجنون أن نعلّبَ الألم في دواخلنا ولا نتركه يتسرب ويريحنا؟ … وليكن في علمك يا صاحبي أن الإنسان في حاجة دائمة إلى العزاء والمسح على الرأس مهما بلغ من العلم، ومهما بلغ من العمر. ثم إنّ بلسم قلوبنا ومسكّنَ آلامنا كثيراً ما يكونا عند غيرنا دون أن ندري… لهذا ينبغي ألا نتردد في طلب المساعدة”.
انفرجت قليلاً أسارير وجه نايف عواد المصلح، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خجولة، ودنا مني خطوة:
“إذا كان الأمر كذلك، فما رأيك أن آتيك بقصتي غداً”.
“تقصد أن ترويها لي”.
“لا. لقد كتبتها منذ سنوات بطريقتي، ولكني أخفيتها عنك بدافع الخجل”.
“أتدري يا نايف؟ من خجلك هذا، ومن ترددك في عرضها علي، أتوقع أن تكون القصة جميلة وممتعة…على كل حال، بدأت أتشوق إلى قراءتها فعلاً، غداً سأكون في انتظارها”.
“إن شئت كن في انتظارها اليوم، سآتيك بها في المساء… وإذا أعجبتك، فلك أن ترويها بأسلوبك الخاص وتنشرها، على أن تستعير اسماً آخر بدلاً من اسمي الحقيقي، وتغير في أسماء الأشخاص والأمكنة تفادياً لأية شبهة”.
“اترك هذا الأمر عليَّ. ودعنا نلقي نظرة على هذا القلب العاشق المصاب بسهم جارح”. قلت وأنا أتلمس الميدالية المعلقة على خصر مريضي.
“أتظن أن للحب مواسم يا دكتور؟”.
“لا مواسم للحب، أنا واثق من هذا، يا نايف، لكن سلوك العشاق وجنونهم يختلف وفقاً للعمر. وما قام به هذا الرجل يليق بمن هو في الخامسة عشر أو العشرين أو الخامسة والعشرين، لا أكثر. فحتى ابن الثلاثين في هذا المجتمع القبلي المحافظ يخجل من الوقوف أمام الملأ على الرصيف منتظراً صبية صغيرة ليغازلها، ويقدم لها الهدايا”.
“هل أفهم من حديث طبيبنا أنه لم يسبق له أن وقع في حب امرأة تكبره أو تصغره بعشرات السنين، وقدم لها هدية مثلاً؟”.
وعندما شاهد البسمة على شفاهي استدرك:
“أعتذر عن التدخل في شؤونك الخاصة… ولكن…”.
“ليس هناك ما يستحق الاعتذار يا رجل. السؤال عادي وليس فيه ما يحرج، ثم أن عشر سنوات من العِشرة كافية لأن نكون أصدقاء، ويعزّ أحدنا الآخر. ألا يحق للصديق أن يسأل صديقه سؤالاً بسيطاً كهذا؟”.
قاطعته لأصرف عنه الحرج الذي وقع فيه. ثم تابعت:
“بلى وقعتُ، وأكثر من مرة. لكن الأمر لم يتجاوز الإعجاب، ولم يُترجم إلى أفعالٍ تشبه أفعال الرجل هذا، مع أنني أتفق مع من قال أنّ الحب والرزانة لا يجتمعان في شخص واحد… ثم إنّ اللواتي وقعت في حبهن لم يكنّ يكبرنني، أو يصغرنني، بنصف قرن، بل قل بعشر سنوات، أو بعشرين، كحد أقصى. فالحب طفيلي في طبعه، يدخل إلى القلوب دون استئذان، ويمكث فيها كما يشاء، وافق العقل أم لم يوافق، ناهيك عن أنه عابر للسنين ولا يستهدف عمرا بعينه، هذه من المسلمات التي يعرفها كل واحد منا… وهكذا أحببت أنا أيضاً، يا نايف، وأحببت كثيراً، دون أن ألتفت إلى عمري أو عمر من أحب: أحببت معلمتي في الصف الخامس الابتدائي وصرت أختلس النظر إليها من بين رؤوس التلاميذ وأتخيل نفسي في أحضانها دون أن أعرف لماذا، وما المتعة التي يجنيها الذكر في أحضان الأنثى. ودون أن أعرف ما اسم القوة التي تجذبني إليها، وتجعلني أنشرح للقياها وأغتم لغيابها، وما اسم الحالة التي تجعل أذني تعشق صوتها. وأذكر أنني كنت أفعل كل ما في وسعي لأنال إعجابها ولأكون أكثر تلامذتها اجتهاداً وأدباً. وكنت أحترق في نار الغيرة عندما تثني على أحد التلاميذ الذكور أمامي. وربما كانت هي السبب في تفوقي الدراسي منذ سنواتي الأولى على مقاعد الدراسة. والغريب أنني نسيت الآن ملامح السواد الأعظم من التلاميذ والمعلمين والمعلمات الذين كانوا معي في تلك الفترة إلا ملامحها هي، لا زالت تتبدى أمام عيني بتفاصيلها، رغم أني لم ألتق بها منذ ذلك الوقت. ولو كنت رساما لرسمت صورتها الآن بدقة، دون أن أنسى تلك الشامة الصغيرة على شحمة أذنها اليمنى… وأحببت معلمة مادة العلوم الطبيعية وأنا في الثالثة عشر، وكانت في الثلاثينات، ومتزوجة، ولها ثلاث بنات، وانتهزت في إحدى المرات فرصة انشغالها بالكتابة على السبورة، واختلست دفتر ملاحظاتها على الطاولة أمامي، وكتبت عليه باللون الأحمر: (أحبك، والحب مثل الريحان إن لم نسقه بدماء قلوبنا ذبل ومات). لكنها لاحظت حركتي، وعندما علمتْ بالأمر، راحت تبتسم كلما وقعت عيناها عليّ، وابتداء من اليوم التالي صارت كل زميلاتها المعلمات يبتسمن كلما لمحنني في الممرات أو أثناء الاجتماع الصباحي. عندها أدركت المأزق الذي أوقعت نفسي فيه، وصرت أتفادى لقاءها خجلاً، وبلغ بي الأمر لفترة من الفترات إلى أن أخلق الحجج للتغيب عن حصصها، حتى أدركتْ هي الموقف، وعالجته بطريقة ذكية، مدعية بأنها تعلم أن العبارة لم تكن موجهة إليها شخصياً، وإنما هي حكمة يتداولها الناس، وشكرتني عليها، وعلى اجتهادي وقدرتي على التعبير!… وأحببت موظفة التسجيل طيلة سنوات الجامعة، تلك التي كانت في الأربعينات وأماً لدزينة من الأطفال. وقتها كنت بالغاً وأعرف ما هو الحب، اوله ومنتهاه، لكني بلعت سري على مضض ورحت أفكر بها وأتخيلها بصمت، دون أن تدري هي أن ثمة شاباً، من عمر أبنائها، يهيم بها، ويتوانى بسببها عن دراسته…”.
قاطع حديثنا رجال الطوارئ ونقلوا المريض إلى سيارة الإسعاف. بينما توليتُ أنا مهمة إيصال عامل البلدية نايف عواد المصلح إلى بيته في حي المشلب بسيارتي، رغم إصراره على العودة سيراً على الأقدام.
ونايف عواد المصلح هذا في الثانية والخمسين من العمر، بيد أنه أعزب ولم يسبق له أن تزوج لأسباب أجهلها حتى الآن، ولم أرغب بسؤاله عنها احتراماً لخصوصيته. لكن من يراه يظنُّه في السبعين. فشعره الكثيف شائب تماماً، تحسبه شيخاً يضع عمامة بيضاء على رأسه. وجلد رقبته مترهل. وعيناه البنيتان غائرتان قليلاً، وكئيبتان، ودائمتا الرطوبة، كما لو فرغ للتو من البكاء. وبشرته السمراء تبدي تجعيدات خفيفة في جبهته، وخديه، وحول عينيه، وخلف أذنيه. ومع ذلك يتمتع الرجل بلياقة بدنية كبيرة، فتراه في نشاط محموم طيلة فترة دوامه، يتنقل من رصيف إلى رصيف، ومن شارع إلى شارع، بحركات رشيقة وسريعة وكأنه ابن العشرين. وكلما وصل قبالة عيادتي، صعد الأدراج، درجتين، درجتين، ودخل المطبخ، وتناول على عجل كوباً من الشاي، ثم لملم أكياس الزبالة، وعاد بها إلى حاوية القمامة في الشارع. وإذا كان لديه المزيد من الوقت، قام بتنظيف المطبخ والحمام والممر دون أن يطلب أحدٌ منه ذلك، لا انتظاراً لمكافأة، أو ارتجاءً لشكرٍ، وإنما كرم أخلاق منه.
ولم يسبق له أن انصرف من عمله عند الساعة الثانية من كل يوم دون أن يمر عليَّ ويسألني فيما إذا كنت بحاجة إليه أم لا، وأنا أتردد دائماً في طلب الخدمة منه، لا لأني لست بحاجة إلى خدمة، من قبيل غسل السيارة، أو شراء بعض المؤن من السمان القريب، أو إيصال بعض المخطوطات إلى دور النشر، أو دفع فاتورة الكهرباء، بل لأنه يرفض البقاشيش رفضاً قاطعاً، ترفعاً وأنفةً، رغم فقره المدقع، وسوء ظروفه المعيشية في مسكنه الهزيل، ورغم عمله الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه مهين، لا يقوم به عزيزٌ. وبالكاد أدس بعض المال في جيب سترته قبيل الأعياد، فيضطر إلى تقبله لأنه صدقة من مسلم إلى أخيه المسلم، والصدقة لا تُرد لأنها مال الله حسب رأيه. والشيء الوحيد الذي كان يتقبله مني برحابة صدر ومن غير تردد هو الكتب.
وهو يعشق الشعر والأدب، ويروي شفاهاً القصص والحكايات والطرائف والقصائد بلهجته الشعبية الدارجة بمهارة واحترافية، ومن هنا نشأت بيني وبينه صداقة مذ أن تعرفت عليه قبل أكثر من عشر سنوات. ومن يومها، وبين الفترة والأخرى، صرت أختارُ يوماً من أيام الجمعة، وأمرّ عليه في بيته قبيل الغروب برفقة أحد أصدقائي المقربين، لنصطحبه إلى ضفاف الفرات. وهناك ينصرف هو إلى صيد السمك وشوائه، فيما ننصرف نحن الاثنان إلى السباحة في النهر، ومتى ما كانت الوليمةُ جاهزةً دعانا إليها، وإلى الجلوس على مائدته العامرة والتلذذ بطعم أسماكه: الكارب والسلور والبوري والرومي. وبعد انقضاء ساعة الخمول التي تعقب العشاء يباشر صاحبنا بغناء المواويل الشعبية الحزينة وقرض الأشعار، ثم يروي لنا القصص والحكايات وهو يعدُّ الشاي على الحطب بطريقته الخاصة. بيد أنه يأبى أي مقابل مادي لقاء خدمته هذه كما أسلفت، ويعتبرنا دائما ضيوفاً عنده لمجرد أننا نمر عليه في بيته ونصطحبه في رحلتنا، فيعتبر ذلك مكرمةً له وشرفاً عظيماً، وفي العرف القبلي لا يجوز خدمة الضيف بمقابل مادي.
ورغم جديته المعهودة، التي تلازمه دائماً، وتميز شخصيته، تراه برفقتنا منبسط النفس، منشرح الروح، طليق اللسان، وما إن نعيده إلى غرفته الشبيهة بقن الدجاج، والتي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، حتى يعود إلى صمته وعزلته وكآبته وانطوائه على ذاته. وأذكر أنه مرض مرة مرضاً شديداً، وظلَّ سبعة أيام طريح الفراش في بيته، دون أن تكلف البلدية نفسها بمهمة البحث عنه، أو السؤال عن سبب اختفاءه، باعتباره أحد كوادرها المشهود لهم بالالتزام والمهارة، بل إن كل ما قامت به هو أن أدرجته في سجل الغائبين عن العمل دون مبرر، وخصمت من راتبه مبلغاً كبيراً. وهكذا بقي دون طعام أو شراب، حتى وصل به الأمر إلى مشارف الموت. ولولا نباهة أحد الجيران، وسؤاله عنه، ومن ثم نقله إلى المستشفى، لقضى وقتها بالتهاب رئوي حاد، ولما كنا الآن في صياغة هذه القصة التي سهرتُ عليها ثلاثة أشهر حتى منحتها الشكل الروائي المناسب لذائقتي الأدبية.
سسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسـ
هذا النص كتب كُمدخل إلى روايتي (ليالي الرقة الحمراء)، لكنه أُسقط عنها قبيل الطباعة.