من وحي نوروز.. لنجعل من التعددية الثقافية ثراء وطني

إبراهيم الحامد 

أسئلةٌ إشكاليةٌ ملحة تطرح نفسها في الواقع المأزوم اليوم على مستوى العالمي عموماً وعلى مستوى شرق الأوسط خصوصاً وأهمها :  لماذا طغت في عالمنا اليوم  التوجه نحو  التعددية على التوجه الإحادي ؟ ولماذا طفت مفهوم الهوية الثقافية اليوم على مفهوم الهويات الأيديولوجية الاقتصادية والطبقية رغم أهمية هذاالأخير للوضع المعيشي للناس ؟ ولماذا فشلت نماذج حكم الحزب الواحد والتوجه الثقافي الواحد في بناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة ؟
 في العصور القديمة وقبل ما يقارب ١٤٥٠عاماً – وبوجود وسائل التواصل الاجتماعي كالخيل  براً والسفن بحراً والحمام الزاجل جواً – كان لكل مجموعة بشرية الساكنة في أية بقعة من الأرض هوية ثقافية أحادية للسلطة ، والتي أنتقلت من رب العائلة إلى رئيس القبيلة إلى إلٰه الديني البشري، وصولاً لعصر الإمبراطوريات وسلطة الإمبراطور ممثل الإلٰه السماوي والحاكم بأمره على الأرض، وعملت كل إمبراطورية ناشيئة للسيطرة بمفردها على العالم، 
وتوالت ظهور الإمبراطوريات كلاً منها على أنقاض الأخرى بحروب  مدمرة، واستمر الحالة تلك حتى ظهور مفهوم التعددية في شرق الأوسط ، وبالتحديد في موطن العرب الأول على يد محمد بن عبدالله رسول الإسلام في المكة أم القرى ، حيث كانت لكل قرية من قراها إلٰه ،ولكل منها سلطة عائلية و قبلية ونموذج ثقافي و إقتصادي ،وحسب المفكر الديني المتنور الدكتور محمد شحرور ، قام محمد (ص) رسول الإسلام بثورة على الأحادية تلك في مكة بإنتقاله إلى المدينة وبناء التعددية الدينية والثقافية والإقتصادية فيها،بنقله الأحادية إلى السماء في الإلٰه السماوي الواحد الذي هو الله ، وبنى التعددية على الأرض بإشراك اليهود والنصارى والمسلمين في مجلس الشورى لإدارة المدينة كنموذج لدولة التعددية ، إلا إن الصراع الذي حدث بعد وفاته بين من عمل لإستمرار التعددية في المجتمع و سلطة الدولة الإسلامية وبين من حاول العودة للسلطة الأحادية في عهد الخلفاء الإسلاميين الراشديين ،وأنتصرت مفهوم السلطة والثقافة الواحدة على يد بني أمية في الدولة الأموية،ومن بعدها الخلافة العباسية وبناء الدولة العباسية وانتهاءً بالخلافة العثمانية على يد عثمان بن أرطغرل المغولي في عام ١٢٩٩وحتى إنهيارها في عهد عبدالحميد الثاني عام ١٩٢٤.
وظهرت مفهوم مسألة الهوية الثقافية في الدول القومية الحديثة ، وتشكل التعددية القطبية في العالم والمكونة من القطب الرأسمالي والقطب الإشتراكي ، وعالم دول عدم الإنحياز،وعاش العالم خلالها الاستقرار والتوازن الدولي،إلا إن كل منه كان يستخدم الأحادية داخله ، وذلك بفرض هوية سياسية وثقافية إقتصادية واحدة ،وطمس  وصهر الهويات الأخرى بالقمع والإنكار وممارسة التطهيرالعرقي في بوتقة هوية ثقافية واحدة وإزداد ذلك بعد إنهيار القطب الإشتراكي وتفرد القطب الأميركي بالعالم ، إلا اإنها لم تفلح بذلك ليومنا هذا ، لإن الثراء والغنى والإزدهار الاجتماعي تنبع من تعددية الهوية الثقافية والإقتصادية ،بينما الفقروالجهل  والضعف وعدم الاستقرار والإنهيار هي خاتمة لكل سلطة إحادية الهوية الثقافية ، ولقد أثبت التاريخ البشري على إن المكونات الثقافية الاجتماعية، وبرغم العيش بظل الإنكار والإقصاء والقمع،وبالرغم من معرفتها  باستغلال والإستثمار السياسي لتلك الهوية في خدمة المصالح الاقتصادية الضيقة ، إلا إنها  تمسكت بهوياتها الثقافية و فضلتها على الهوية الطبقية  .
فمن تلك الهويات كانت الهوية القومية للشعب الكردي ذات الإشكالية الأكبر اليوم في شرق الأوسط،والتي توزعت جغرافيته بين مجموعة دول المنطقة ( تركيا -إيران  – روسيا – عراق – سوريا ) على إثر إنهيار الإمبراطورية العثمانية على يد الإمبراطورية البريطانية والفرنسية وروسيا القيصرية  في حرب العالمية الإولى ،وتوزيع شرق الأوسط كمناطق نفوذ فيما بينها ،بموجب اتفاقية (سايكس – بيكو) عام ١٩١٦،والتي  كان من ملحقاتها وعد بلفور في إقامة دولة يهودية في فلسطين كإشكالية أيضاً لا تقل أهمية عن الكردية ،وقسم الاستعمار البريطاني والفرنسي  بلاد الشام إلى مناطق نفوذ وانتداب فيما بينهما وهي ( الأردن -فلسطين -لبنان -سوريا ) وقسمت بلاد الرافدين وألحقت أجزاء منها بإيران وتركيا ،وأسستا  “العراق وسوريا “كمملكتين ونُصِبَ عليها  ملك فيصل بن الشريف حسين،وذلك تنفيذاً لإتفاقية الشريف حسين قائد الثورة العربية مع مكماهون وزير خارجية بريطانيا في حربهما المشتركة ضد الإمبراطورية العثمانية ،كما صنعا دولتين حديثتي العهد هما ” دولة تركيا القومية الحديثة ” بتاريخ ٢٩أكتوبرعام  ١٩٢٣ وأعترفت بها رسمياً عام ١٩٢٤ بالإتفاق مع كمال أتاتورك رئيس حزب الاتحاد والترقي الذي أطاح بآخر سلاطين الدولة العثمانية عبر البرلمان التركي ،كما نُفذ وعد بلفور بإقامة “دولة إسرائيل “في فلسطين بتاريخ ١٤أيار عام ١٩٤٨ .
وها هو العالم يشهد اليوم إخفاقات ونتائج لتلك السياسات في مجتمعات شرق االأوسط ، شاهد الفرد فيها سطوة سلطة أحادية الهوية وقمعها للآخر المختلف ،مما دفعته للبحث عن هويته الثقافية والتمسك بها برغم قمعه وترهيبه ،وذاك ما جعل أن يطفو مسألة الهوية الثقافية على كل المسائل الأخرى المهمة لأي مجتمع في بناء الدولة الوطنية ،وفي هذا الإطار سأتناول مسألة الهوية الثقافية للشعب الكردي،دارات ماضياً وتدار اليوم على جغرافيته صراع النفوذ فيما بين قوى عالمية وأقليمية ،حتى بات  مسلوب الإرادة بسبب الطغيان والأحزاب ذات التبعية العمياء ،ورغم ذلك ورغم تشتته وتلونه بجميع الثقافات المحيطة به وإتقانها، وفقدانه الكثير من عناصر هويته، إلا إنه وبفضل القلة من صمدت منه أمام ظروف القمع والإبادة التي مرَّ بها على مدى مئات السنيين ورغم تشتته الجغرافي وانتشاره على ساحات الهجرة واللجوء، قد حافظ على هويته الثقافية من خلال إحتفائه بإعياده  القومية التي هي جزء من هويته الثقافية، وكان أبرزها عيد نوروز كرأس السنة الكردية ،والذي يبدأ الإحتفاء به مساء ٢١ آذاربإشعال النيران على الجبال والتلال والساحات،و يتخللها بعض الأغاني والدبكات الفلكلورية الكردية حتى ساعات متأخرة، ثم تبدأ الرحلات في جو ربيعي يرتدي الكبار والصغار أجمل ملابس الزي الفلكلوري الكردي،و تعرض المسارح و الفن والتراث الكردي، ويمضي هذا اليوم بالفرح والمتعة حتى ساعات المساء، ولقد عانى الكرد الكثير من المعاناة في إحيائه من قبل سلطات الدول التي يعيشون فيها ،والتي كانت تحاول محو هذا التاريخ المقدس لديهم  بالضغط  والترهيب والقمع وحسب قوانينه،وظلت الحالة تلك في مد وجزر،حتى حدوث تحولات مهمة في بعض تلك الدول، ففي العراق أصبح أكثر لمعاناً منذ عام ١٩٩١ وصولاً لكتابة دستور العراقي الجديد والذي ينص على إن العراق دولة فدرالية يتمتع  فيها الشعب الكردي العراقي بحكومة مستقلة في إقليم كردستان العراق، وأصبح الاحتفال بعيد نوروز يبدأ فيه من مساء يوم ٢٠ آذار ولمدة إسبوع يعتبر عطلة رسمية .
وفي تركيا التي يقيم فيه الشعب الكردي على جغرافيته التاريخية حتى الآن ما يقارب ٢٠مليون كردي ، يحتفل بهذا العيد بتجمعات مليونية في المناطق الكردستانيه برغم من قمع وضغط السلطة التركية . 
و في إيران يعتبرعيد النوروز أهم الأعياد الوطنية ،وتعطل بشمل رسمي لمدة أربعة أيام ،وتعطل المدارس والجامعات لمدة ١٣يوماً  تحت أسم عطلة الربيع، وكذلك تستمرفيها الدوائر الحكومية ومؤسسات وشركات القطاع الخاص في عطلة شبه رسمية، و يحتفل الشعب الكردي اليوم بهذا العيد حسب فلكلوره المنتشر في عموم  كردستان.
وأما في سوريا وبعد المسيرة التي توجهت إلى القصر الجمهوري احتجاجاً على منع كرد دمشق من الاحتفال بهذا العيد واستشهد فيها أحد المحتجين، قد أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد على إثر ذلك مرسوماً أعتبر  يوم ٢١عيداً رسمياً تحت أسم (عيد الأم) لمعالجة الحالة تلك، علماً إن الشعب الكردي في سوريا قد سعى دوماً للتعايش السلمي في سوريا، حيث شارك جميع المكونات مناسباتها الدينية والوطنية والاجتماعية والأممية حتى باتت جزءاً من تراثه الثفافي إلى جانب حفاظه على تراثه وهويته القومية ،وأهمها عيد الجلاء كعيد أعياد الوطن، حيث كان للكرد دور بارز فيها، فلم يرضخ الكرد للمطالب الاستعمار الفرنسي الذي وصل للجزيرة بعد معركة ميسلون واحتلاله لسوريا عام ١٩٢٠، وقد دارت إحدى المعارك الشهيرة بين الكرد والاستعمار الفرنسي في قرية بياندور، والتي تم فيها قتل الضابط الفرنسي روغان ،وعلى إثرها القوات الفرنسية من الريف وتحصنت في مدينة الحسكة ودير الزور، وفي عام 1926 بدأَ تحالف العشائر الكردية مع الكتلة الوطنية لمقاومة الوجود الفرنسي في المنطقة ،حينها جمع المستعمرالفرنسي جيشاً لعملائه من العشائر المجاورة، وشنت غارةعلى تل حبش التابعة للحسكة والقرى المجاورة لها، واستشهد فيها العشرات من ثوار الكرد، ودامت المناوشات تلك حتى تحقيق الجلاء.
وإضافة لعيد الجلاء يشارك الشعب الكردي السوري كافة مكونات الدينية والثقافية السورية أعيادها، كعيد الفطر وعيد الأضحى الإسلاميين، وعيد الصوم وعيد باتزمي والأربعاء الأحمر وغيرها عند الطائفة الأزيدية، وعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية وعيد الغطاس وعيد الفصحِ وعيد البشارة وعيد الصعود ورأس السنة السريانية عند المسيحية ،ولعيد المرأة وعيد العمال النصيب المهم لدى الشعب الكردي السوري كعيدين أمميين .
لقد أكد علماء الاجتماع الأنثربولوجيين على إن كلاً من مفهوم الهوية والثقافة غير ثابت وفي حالة التغيير، ولا يوجد شكل ونمط واحد ثابت ونهائي لها،وإنهما يلعبان دوراً مؤثراً في تطور المجتمع الإنساني ،وهذا ما يؤكد ضرورة وأهمية الحفاظ على تعددية الهوية الثقافية والقومية في إطار الهوية الوطنية الجامعة،ومن الأهمية والضرورة حمايتها من الانصهار في بوتقة الغزو الثقافي الإستهلاكي المعاصر لعولمة الاقتصاد و الثقافة الرأسمالية التي تقودها أميركا اليوم تحت مسميات وشعارات مختلفة ،ومن ذات الأهمية على الشعب الكردي السوري الأصيل اليوم أن يعي طبيعة المرحلة وعدم الانجرار والانقياد الأعمى وراء لمن يستثمر  ويستغل قضيته، وضرورة  عودته  لحضن الوطن السوري الجامع لكل الهويات الثقافية فيه ، ولتمهيد الطريق أمام الحل للأزمة السورية يتطلب من الجهات المعنية والحكومة السورية ، الاعتراف بهذا الشعب كهوية ثقافية له خصوصياته، وبناء التعددية الثقافية والسياسية والتي هي غنى وثراء لسوريا الموحدة أرضاً وشعباً .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…