يلوون ألسنتهم ويعلكون الكلمات في أفواههم

محمد قاسم ” ابن الجزيرة “
m.qinjezire@hotmail.com

هذي الحياة، يشبّهها الناس –دائما- بالغابة، وتحتوي كل الموجودات المختلفة، منها المتناغمة، ومنها المتناقضة، ومنها على أحوال مختلفة؛ قد لا نستطيع إحصاءها بدقة، على الرغم مما نعتقد من التطور الذي حصل في الكون وما فيه، خاصة فيما يتعلق بالبشر.

يدفعني الفضول إلى المعرفة، لفهم بعض ما يلفت انتباهي، أو بعض ما يكون في دائرة اهتمامي لسبب ما، والفضول –كما هو معلوم- خاصّة بشرية أصيلة –وان شئت، فطرية وطبيعية؛ وهي الدافع إلى البحث والاستقصاء؛ للوصول إلى أسرار الطبيعة، وفهمها، والتكيّف معها، أو تكييفها مع طموح البشر؛ في حياة أسهل، وأكثر رفاهية، وقبل ذلك؛ أكثر أمنا وأمانا وراحة…!
منذ دخول التلفزيون حياة الناس بقوة ، تفرض شاشتها مختلف المواضيع على المُشاهدين- أبوا أم رغبوا…- منذ  ذلك، فإن مظاهر –وظواهر- مختلفة تبدو وكأنها تفرض نفسها، ومتابعتها ، وممارستها أيضا- ومنها:
ظاهرة ممارسة اللغو عن سبق إصرار وتصميم.
فمن خلال متابعاتي لما يجري على هذه الشاشة – شاشة التلفزيون- من مقابلات لأفراد، أو برامج –يفترض أنها حوارية- يبدو لي أن هناك نماذج بشرية امتهنت ما يمكن تسميته “سفسطة”– وأقولها تجاوزا- أو“لغوا” أو” جدلا بيزنطيا” أو “جدلا مذموما” …الخ. فلكل تسمية جذورها الثقافية… وان كانت جميعا لها الدلالة نفسها.
وفي محاولة لفهم واقع هذه النماذج  البشرية، يتضح أن معظمها ينتمي إلى الثقافة الأيديولوجية عموما، وتلك التي انبثقت من رحم الأيديولوجيا الماركسية خصوصا، وتبلورت عبر تجارب إدارية-أو قيادية- أو نهج حكم سياسي…ومنها :
التجربة القومية الأيديولوجية الحاكمة – وهي تحكم لفترات طويلة عادة؛ باعتبارها أنظمة حكم تستأثر به عبر معطيات هذه الأيديولوجيا ، والتي أنتجتها الأيديولوجيا نفسها… خاصة الأيديولوجيا الماركسية تشكل جذورا ملعوبا بها- تغيير بعض ما فيها- لإضافات توافق طموح هذه الأنظمة، ونهجها في الحكم –ومنها مثلا نهج الأيديولوجيا الناصرية، ونهج الأيديولوجيا البعثية – مع فارق في، ما بين الناصرية؛ والتي حاولت إن تجد أسس استبدادها في أيديولوجية دينية –إسلامية مطعمة بالأيديولوجيا الماركسية في شقها السياسي –على الأقل.. وبين البعثية  التي اتكأت -في معظم نظريتها القومية- على الماركسية، وحاولت إخضاع الدين -الإسلامي خاصة – لما يعزز نظريتها القومية هذه بطريقة أيديولوجية، أيضا تغلب فيها الأيديولوجيا؛ كمحاولة نظرية فلسفية في شكل ما – بغض النظر عن صدق المسعى، والعمق في البحث معرفيا، لأن السياسة في الأيديولوجيا الماركسية هي التي تغلب نهج البحث، مما يغلب النهج الذاتي فيه...
أما المذاهب الفلسفية الأخرى ، والتي هي –غالبا- جهد، ومسعى معرفي…، للوصول إلى نتائج تكشف عن أسرار المواضيع  المبحوثة.
ولا نبرئ بعضها من ادلجة سياسية أيضا في ظروف محددة.
ولا بد –قبل أن ننسى – أن نذكّر بان “السفسطة” نهج فلسفي إغريقي، عجز عن إدراك حقائق محددة، فاتجه إلى اعتناق  فكرة ذات طبيعة فلسفية هي : إن  الحقائق الثابتة غير موجودة، ومن ثم يبقى التأثير هو الأساس في العلاقات، زاعما:
 (لا يمكن إدراك الحقيقة، وان أمكن ذلك فلا يمكن فهمها،وان أمكن ذلك فلا يمكن تطبيقها).
فهي –أي السفسطة- نظرية فلسفية جادة؛ من وجهة نظر أصحابها، تبلورت في خضم نشاط فلسفي حينذاك- وربما عيبها الأساس هو تبني التشكيك بالحقيقة الثابتة-.
لذا حاربهم سقراط بقوة، ويعده بعضهم من آخر السفسطائيين بالمناسبة، ولكنه خرج عليهم .
 ولا تزال أفكارها، ومفاهيمها، حاضرة في الثقافة المعاصرة بقوة؛ سواء أكان ذلك في سياق قراءة تاريخ الفلسفة، أو في سياق المنظومة المعرفية الفلسفية المؤثرة راهنا.
وعلى الرغم  من أنها –السفسطةقد تكون باعثة على الإحباط بمعنى ما، إلا أنها تمثل جهدا بشريا فيه جدية إلى درجة مقبولة، وفي سياق البحث الفلسفي، بخلاف اللغو والجدل البيزنطي-في المفهوم الدارج على الأقل- أو الجدل المذموم –كمصطلح في الثقافة الإسلامية.. وكذلك اللغو…
وقد انتبه إلى هذا، مفكر –من الطريف انه ذو اتجاه ماركسي في جذور ثقافته –هو المرحوم، هادي العلوي ، وقد تناول نظرته هذه في كتاب أسماه: اللغو واللغة.
والتعاطي مع اللغو كنهج –وأسلوب- يعتبر محاولة عبثية لتزييف الحقيقة عن سابق قصد -بخلاف السفسطة-.
 وهذا هو النهج الذي يتبعه المندرجون تحت ما ذكرناه من النماذج البشرية، والتي امتهنت اللغو والتزييف –وان شئت السفسطة بالمعنى المشترك مع اللغو.
 هذه النماذج البشرية، إنما هي حالات طفيلية تنمو على فتات موائد الأنظمة، أو المؤسسات المختلفة، وتحسن ممارسة ارتزاق- بمهارة- يعينها على تبوّء مراكز، وامتلاك أموال …
ولأنها –أصلا- ذات  شخصيات مرتبكة أخلاقيا، وتربويا- بغض النظر عن الأسباب، وهي كثيرة – فقد وجدت ضالتها في الارتزاق؛ كطريقة تعينها على تجاوز هذا الارتباك…بتعويضها عن ما عجزت عن الوصول إليه في السياق الطبيعي للممارسة، والبحث عن الذات، وتحقيقها بمعنى ما.
سهل ذلك عليهم، وجود مناخ مرتبك فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية والتربوية نتيجة فساد وإفساد منهجي، تورطت النظم  السياسية المستبدة  فيه، تلك المستبدة خاصة.
ما يؤسف له أن الكثيرين من هؤلاء يحملون –مهما كانت طريقة تحصيلهم- شهادات عليا، ويتبوّؤون –في حالات – مراكز عليا…والأسوأ، تلك المراكز التي تحمل تسمية ثقافية..إستراتيجية…الخ.
أما النماذج التي نقصدها هنا، فهي تلك التي لا عمل محدد لها؛ سوى أنها تمارس التدرّب على متابعة ومعرفة الأحداث، بل وتمدّهم بها –الأنظمة – والمؤسسات- ذات العلاقة بها، لتكون تحت الطلب عندما تكلفها الأنظمة –والمؤسسات- التي  تمتهن الارتزاق عندها.
لذا فلا يعجزك معرفتها…
زلقة في اللسان، تبدع مصطلحات تخدم اتجاههها، قليلة الحياء، أو لنقل صفيقة، لا ضابط منطقي، ولا أخلاقي لمماحكاتها، تستقوي بالجهات التي تستخدمها،… يهمها أن تنتهي من الجدال لتحصل على طبطبة على أكتافها، ورزم مالية – ربما- تتحول إلى حساباتهم-أو تدفع إليهم مباشرة…أو غير ذلك من أثمان رهنت ذاتها من أجلها…
لذا فهي –كما يقال- ثقيلة دم، مشوّهة الصورة في الانطباع الناتج عن مماحكاتها، تشعر بها كائنات تعيش على هامش الحياة- بمعناها المفترض من النبل والقيم الموازية والمتفاعلة مع ذلك.
وقد يكون من بين هؤلاء من له أجندة خاصة –إضافة إلى مهنة الارتزاق- ليفرضوا مفاهيم تدفع باتجاه التوريط للبعض-بما فيهم داعموهم- أو خلق حالة انفكاك بين البعض –وربما منهم داعموهم أيضا..لإيجاد حالة ثقافية تهدف لتثبيت اتجاه معين؛ يخدم فئة معينة؛ دينية، أو طائفية، أو مذهبية، أو حزبية، و قومية…الخ.

وفي كل هذه الأحوال هم مرتهنون لمصادر ارتزاقهم –نظم مستبدة غالبا، أو مؤسسات غير نزيهة عموما..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصطفى عبدالملك الصميدي/اليمن*

تُعدّ ترجمةُ الشَّعر رحلة مُتفَرِّدة تُشبه كثيراً محاولة الإمساك بالنسيم قبل أن يختفي سليلهُ بين فروج الأصابع، بل وأكثر من أن تكون رسماً خَرائِطياً لألوانٍ لا تُرى بين نَدأَةِ الشروق وشفق الغروب، وما يتشكل من خلال المسافة بينهما، هو ما نسميه بحياكة الظلال؛ أي برسم لوحة المعاني الكامنه وراء النص بقالبه…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان ( 1883_ 1931 ) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية . وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية ، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة…

ابراهيم البليهي

من أبرز الشواهد على إخفاق التعليم الذي لا يقوم على التفاعل الجياش عجزُ الدارسين عن اكتساب السليقة النحوية للغة العربية فالطلاب يحفظون القاعدة والمثال فينجحون في الامتحان لكنهم يبقون عاجزين عن إتقان التحدث أو القراءة من دون لحن إن هذا الخلل ليس خاصا باللغة بل يشمل كل المواد فالمعلومات تختلف نوعيا عن الممارسة…

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب…