منذ قرابة العقد من الزمن، في سنوات صبانا الأولى، تعرفنا على أفلام عمر أميرالاي خلسة. ففي سنوات الدراسة الجامعية الأولى، كان الطلبة يتبادلون أشرطة أفلامه فيما بينهم بشكل سري، وبالذات فيلمه الأخير الذي كان قد صور وقتها «طوفان في بلاد البعث». وأكثر ما علق في ذهني عن ذلك الفيلم، أنه في المرة الأولى التي شاهدته، كان بعض الأصدقاء في القسم الداخلي للطلبة بجامعة دمشق، وأثناء المشاهدة، دُق باب الغرفة، وما كان أحدهم يهم بفتح الباب، كان الآخرون قد فصلوا الكهرباء عن جهاز العرض وإخراج السي دي ووضعه بين الكتب، والجلوس بطريقة تبعد عنهم أية شبهة بأنهم كانوا يتابعون شيئا ما سوية. وحينما كنت أخبر الراحل أميرالاي بهذا الموقف، مستدلا على كمية الخوف في وجدان السوريين، كان يبتسم بألم ويرد :«شايفشايف !!».
ليلة السبت الماضي كنت أهم بفتح موقع وكالة الأنباء السورية، للاطمئنان على هطول الأمطار في منطقة الجزيرة، فدهشت لرؤية صورة أميرالاي في الصفحة الرئيسة. لبرهة انتابني شعور غريب بأن شيئا رهيبا قد حصل، فصورة أميرالاي وأمثاله في موقع كهذا مستحيلة الظهور تقريبا. بقيت تلك الدهشة حتى أدركت ذلك العنوان البارد «وفاة المخرج عمر أميرالاي«. هاتفت صديقنا المشترك ياسين الحاج صالح لأعزيه وأقتسم الحزن معه. أخبرني ياسين بأنه سيدفن غدا، وأن انطلاق الجنازة سيكون من أمام بيت والده في أول شارع باكستان وسط دمشق. لم اكن أعرف العنوان بالضبط، فذهبت قبل الموعد بنصف ساعة، وطوال نصف ساعة كنت أدور على المحلات العامة والعابرين في الشارع القريب، لأستدل على بيته أو أن ألاقي أحدا يعرفه ويرافقني إلى هناك، فما كان من أحد في ذلك الشارع المزدحم ذاهب ولا من احد يعرف عنوانه، أو حتى سمع باسمه. كل هؤلاء الذين سألتهم، كان مكان سكناهم يبعد عن سكن أميرالاي بضعة عشر مترا، ومع ذلك لم يكن احد يعرفه. فغربة أميرالاي وأمثاله عن فضاء الثقافة الرسمية السورية، كانت مدخلا لغربة السوريين كلهم عن الثقافة.
كنت من الذين تعرفوا على سينما أميرالاي قبل التعرف عليه شخصيا، لكن المعرفة الشخصية هذه لم تضف إلي شيئا يذكر، فكل عمر أميرالاي كان موجودا في تفصيل من سينماه. فكما كان ساخرا بطبعه، كانت سينماه تكشف دوما التناقضات التي باتت بداهة، وبات كشف التناقض فيها يحتاج لسخرية لاسعة. وكما كان هادئا، كانت الكاميرا في لغته السينمائية تقف في مكان يرصد حركية الواقع وحيويته. وكما كان صادقا، كانت سينماه تخذل المجاز بنعت الأشياء بأسمائها الحقيقية. وكما كانت سينماه أداة لظهور المهمشين، كان عمر أميرالاي كلما كلمته، وفي أي وقت كان، طالبا منه موعدا، لا يملك غير جواب واحد، عزيزي ممكن بعد ساعة بمقهى الداون تاون. فهذا الوقت المفتوح للآخرين، كان أحد أهم الأشياء التي كان يتميز بها أميرالاي عن غيره من «المثقفين» السوريين.
بالرغم من أن مواد دراستنا الجامعية في قسم الصحافة كانت تتضمن بعض المواد عن السينما الوثائقية، لكنها لم تكن كافية لنمارس مهنة البرامج الوثائقية مباشرة بعد التخرج، لذا فإن معرفتي بعمر أميرالاي منذ عدة سنوات، كانت بمثابة الأداة لتعميق مهاراتي في هذا الشأن، فحينما كنت أخبره عن مشاريعي المؤجلة وبعض القليل الذي أنجزته، كانت تعليقاته وملاحظاته أبعد ما تكون عن روح الأستاذ، فدائما كان يعلق أصابعه العشرة في الهواء قبل أن يجيب بهدوء: عزيزي، المهم في الأمر، أن تكون كل لقطة مصورة تعبيرا عن جزء فعال ومرتب مما تريد ان تقوله في ملخص الفيلم، وبطريقة غير مباشرة، كما ان الكاميرا فقط يجب أن تكون في مكان يعجز التعليق عنه، وان تكون التعليقات في لحظة تظن أن المشهد قد لا يصل للمشاهد. لم تكن ملاحظاته هذه درسا في السينما، بل تعبيرا عن رؤيته لمعنى السينما بذاته، فهو كان يردد دوما عبارة شهيرة :» لولا السينما، لما أدركت تلك الحقيقة البديهية البسيطة التي تقول: إني جزء من الحياة وليس العكس«.
عمر أميرالاي، أيها الناظر ألينا من هناك، من أفقك الأزرق، نحن الباقين هنا، في هذا المكان الحزين من صخرة العالم، مديح الموتى فعل مستهلك بطبعه، ولا يليق بمقامك، لكني أعاهدك بأن تبقى ابتسامتك في روحي ما حييت.
المستقبل – الاحد 13 شباط 2011 – العدد 3911 – نوافذ – صفحة 13