صلاة دمشقية إلى قاسيون وبردى وكواكب صديقي (ع)

  إبراهيم اليوسف
elyousef@gmail.com

كتب إلي رسالة موجزة، أرفقها بمقاله الجديد إلي، قائلاً فيها: أنا على عجلة من أمري، سأخرج، لقد تأخرت. كتبت إليه فوراً: إلى أين؟، فأجابني بالسرعة نفسها: إلى التظاهرة، لأسهم في بناء سوريا الجديدة، أغلقت بريدي، متوقفاً عند هذا الحد، من المراسلات بيني وصديقي، كي أعود إليه، بعد حين، لأجده يحمل رسالة أخرى منه، تقطر منها الغبطة، والسعادة يقول فيها:  لقد عدت للتو، من تظاهرة الميدان، وتصور مدى فرحتي، وأنا أصرخ، لأول مرة، في شوارع دمشق: يسقط النظام.
لا أدري، لم انتصبت كل شعرة في جسدي، وبتّ أتصبب عرقاً، وأنا أترجم رسالة هذا الكاتب الذي أعدُّه من صفوة أصدقائي، الخلّص، منذ أن عرفته، قبل عشرين عاماً، لأتفاجأ به، إنساناً حقيقياً، شهماً، عالي الروح، لا يعرف الضغينة، أو اللؤم، يعتبر أي إنجاز لسواه إنجازاً شخصياً له، يرافع عن كل صديق له، في غيابه،  أنى تعرض لطعنة، في الظهر، أو نميمة ملفقة، أو تجنِّ، ليكون بذلك سفارةً كاملة، لأصدقائه المبعثرين، في شتَّى أرجاء المعمورة، وإن عزَّ أمثاله بحق، في زمن صارت أوراق اعتماد”العلاقات” فيه عند بعضهم: الخداع، وتشويه صور الناس، و تقزيمهم، والحط من شأنهم، ليتسنى لهذا الضرب الظهور،على حساب سواهم، ولاسيما أنهم يختارون كل من ناضل، وتعب، من أجل الشأن العام، هدفاً لأنصالهم.
أكتفي بهذا القدر من وصف هذا الأخ الذي لم تلده أمي، ولا أريد التدرُّج وفق هياج العاطفة، لئلا أذكر اسمه، وهو الأديب الألمعي، نثراً وشعراً، وهو الرجل موقفاً، فلقد كان من أوائل من باركوا ثورة الشباب السوري، بلسانه، وسنان حبره، ليربط القول بالفعل.
بعد استلامي لرسالة هذا الصديق، رحت أستكمل صورة شارع الميدان الدمشقي، وأتصور مشهد الكتاب، والفنانين، والمثقفين، والناشطين، والأبطال” الميدانيين” على ضوء رسالة أخرى، كانت قد وصلتني في إطار دعوة، أرسلها إلي صديق أديب مبدع، آخر.
وكان نص الدعوة مكتوباً بحرفية عالية، أشير فيه إلى أن هذا الإعلان نعدُّه إخطاراً للسلطات المعنية، مادامت هي تخرج في كلِّ يوم عشرات التظاهرات الموالية.
كانت الدمعة حبيسة في عيني، بيد أنها سرعان ما طفرت، وأنا أتصور هذا المشهد، أتصور قامات هؤلاء المناضلين، الضوئية، زغردات النساء من شرفات بيوتهن، سواء أكانت معلنة، أم مضمرة، ربما نتيجة للظرف الاجتماعي، أو حتى خوفاً، من جيش كتاب التقارير الذي وجد في هذه التظاهرات مواسم يومية، يوثقها حبراً وصوراً إلكترونية-وإن كان الخوف السوري قد سقط أصلاً- وكذلك يشطّ بي الخيال لتصوُّر: منظر نِثار الأرز، والسَّكاكر المتهاطلة على شكل غيمات،وأصوات عراضات تشبه تقاليد الأقدمين، لأقول: هذه سوريا، هذا نبض إنسانها، هذا موقف إنسانها الحبيس طيلة أربعة عقود ونيف، حتى طفر كدمعتي، هذه.
إنه شعور لا يماثله، إلا شعور شاب قريب مني، راح يكتب إلي، عن أولى تظاهرة في أولى مدينة كردية، من خريطة وطننا السوري، إذ قال:

لأول مرة أشعر أنني سوري حقاً…!

أتذكر، أنني كنت أناقش هذا الشاب، ليكون مرناً في رؤيته، وآرائه، بيد أنه لم يكن ليلين، وهو يقرأ لوحة المظالم القذرة التي  ناله منها رصاصة، ذات يوم، كي أقرَّفي ذاتي أن ثورة شبابنا السوري، باتت تعطي درساً مهماً في الوطنية، ليته يفهم من قبل كل المكون السوري، بدرجة واحدة، فلا يهرول طرف للاستئثار بفرض آرائه، من دون الآخر المكمل له.
إن الدم الذي يغسل تراب سوريا، من أقصاها إلى أقصاها، بات يقول عبارة واحدة: لا عودة إلى الوراء، أجل، لا عودة عن الحلم الذي كان يساور الطفل حمزة، والمغني إبراهيم قاشوش وغيرهما، من قافلة شهداء الثورة التي لابد من أن تنتصر، وهو ما لا يزال النظام يريد أن يحتال عليه، بروح هي خليط من الذئبية والثعلبية، بيد أنه هيهات له ذلك…. هيهات…….!  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…