إبراهيم اليوسف
ثمّة قصائد خالدة، كتبها مبدعوها، كلّ في عصره، بيد أنها تظلّ محافظة على قوتها، وجدواها، مهما تقدم بها الزمان، وكأنها قد كتبت للتو، وأن حبرها لمّا يجفّ بعد، لتكتسب هويّة انتمائها لأية لحظة، في دفتر البرهة، والمستقبل، في آن، كما هي تنتمي إلى سجل الماضي، من دون أن تفقد أياً من ألقها، ودلالاتها الهائلة.
ولعلّ قصيدة الشاعر أمل دنقل “لا تصالح” (1940-1983) تعدّ إحدى تلك الإبداعات الأصيلة، لأنها تنفتح على رؤية إنسانية، ثاقبة، وتقبض على وشائج واقعيتها المستديمة، المتجدّدة، وهذا هو سرّ أيّ عمل إبداعي خالد، منذ بداية تاريخ الإبداع، وحتى تخوم اللحظة التي نشهدها، ولا تزال أيدينا في صلصالها بلغة نزار قباني.
وإذا كان مطلع قصيدة دنقل يقول “لا تصالح/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/هل ترى؟/ هي أشياء لا تشترى”، لتفتح النوافذ على كمّ هائل من المتناقضات، فإنّ أية جوهرتين، مهما غلا ثمنهما، لا يمكن أن يستعاض بهما عن عينين تفقآن، ولاسيما أن يكون فاقئ هاتين العينين، هو نفسه، من يدعي “منحك” الجوهرتين، ويمدّ لك يده الملطخة بدمك للمصالحة، وهي مصالحة تدخل في إطار مفردات مؤامرته، يريد عبرها استدامة عمره، ليسترسل هذا الشاعر الكبير في تقديم شروحاته، بلغة الشّعر، اللغة التي لا يصلح فيها التفسير إلا في مثل هذا المقام “تلك الطمأنينة الأبدية بينكما: أن “سيفان” سيفك . ./صوتان صوتك/أنك إن متّ: للبيت ربّ/وللطفل أب/هل يصير دمي-بين عينيك-ماء؟/أتنسى ردائي الملطخ بالدماء . ./تلبس-فوق دمائي- ثياباً مطرّزة بالقصب؟”… “لا تصالح ولا تتوخّ الهرب”. . .” سيقولون: جئناك كي تحقن الدم . ./جئناك . كن -يا أمير- الحكم/ . .لا تصالح” .
وحقيقة، إن هذه القصيدة تمتلك فلسفة خاصة بها، ورؤية متكاملة، فهي لا تكتفي برسم صورة واقع الضحية، حيث السكين في ظهره، وجراحاته تشخب، والقاتل يستمرئ في إيلامه، والولوغ في دمه، بل تروح إلى أبعد، لترصد موقف المؤتمنين على دم الضحية، الموقف الذي ينبغي أن يكون شفاّفاً كالجرح، حكيماً، صارماً، صامداً، في وجه أية غواية قد يقدمها القاتل، ليتجنب عار المساومة، ولاسيما إذا كان هذا القاتل مهزوماً في داخله، كما أنه مهزوم في الواقع، داعياً إلى رفضها، حتى وإن كان ذلك بذريعة حقن الدماء التي هي مسؤولية القاتل، لا الضحية، ومن يواصل حمل رسالته ورايته .
إن عنوان قصيدة دنقل “لا تصالح” الذي سرعان ما يمكن استبداله ب “لا تساوم” ولا تحاور “من دون أن يتم أي خلل في الدلالة، لأن العنوان نفسه يتضمن كل تلك المعاني، جملة وتفصيلاً، يتكرّر كلازمة، على امتداد الشريط اللغوي للقصيدة، وهي تأخذ بعدها الملحمي، لتتجاوز جغرافيتها، وتصبح نشيداً عاماً، يصلح لكل مكان وزمان، يتردّد على فم كل مناضل، مؤمن بقضيته، يواجه آلة الاستبداد، التي تتأسس عادة على سفك دماء الآخرين، وتهدرها من أجل أمجادها الرخيصة، والزائلة .
elyousef@gmail.com
وحقيقة، إن هذه القصيدة تمتلك فلسفة خاصة بها، ورؤية متكاملة، فهي لا تكتفي برسم صورة واقع الضحية، حيث السكين في ظهره، وجراحاته تشخب، والقاتل يستمرئ في إيلامه، والولوغ في دمه، بل تروح إلى أبعد، لترصد موقف المؤتمنين على دم الضحية، الموقف الذي ينبغي أن يكون شفاّفاً كالجرح، حكيماً، صارماً، صامداً، في وجه أية غواية قد يقدمها القاتل، ليتجنب عار المساومة، ولاسيما إذا كان هذا القاتل مهزوماً في داخله، كما أنه مهزوم في الواقع، داعياً إلى رفضها، حتى وإن كان ذلك بذريعة حقن الدماء التي هي مسؤولية القاتل، لا الضحية، ومن يواصل حمل رسالته ورايته .
إن عنوان قصيدة دنقل “لا تصالح” الذي سرعان ما يمكن استبداله ب “لا تساوم” ولا تحاور “من دون أن يتم أي خلل في الدلالة، لأن العنوان نفسه يتضمن كل تلك المعاني، جملة وتفصيلاً، يتكرّر كلازمة، على امتداد الشريط اللغوي للقصيدة، وهي تأخذ بعدها الملحمي، لتتجاوز جغرافيتها، وتصبح نشيداً عاماً، يصلح لكل مكان وزمان، يتردّد على فم كل مناضل، مؤمن بقضيته، يواجه آلة الاستبداد، التي تتأسس عادة على سفك دماء الآخرين، وتهدرها من أجل أمجادها الرخيصة، والزائلة .
elyousef@gmail.com
زاوية أفق- جريدة الخليح6-6-2011