كلَّ لحظاتٍ عدَّة، أقيس عمري.
أين أنا، وهذه الدُّروبُ الملقاةُ أمام الباب، توشك أن تلقيني في مهبِّ فيضِ هذا اليومِ الكثيف؟!.
أين أنا، وهذه اللحظات الثقيلة، اللامباليَّة، جالسة منذ الصَّباح، كفنجان قهوة بجوار رأسي؟!.
أين أنا، منذ طلوع الفجر، وحتَّى المغيبِ، كلَّما مرَّت بيّ بضع لحظاتٍ، أقيس عمري مرَّة واحدة؟.
***
آخرَ مرَّة، قبل ألف عام، حين كانت قهوتي ساخنة، وآناء تعفُّر إحدى الثَّوراتِ النَّاضجةِ بغبارِ وترابِ اليأس، كانت ثورتي، للتوِّ منهارة.
كان يوماً مبلَّلاً… كنتُ أتضوَّرُ برداً.
كمْ أشعرُ بالبرد…
من شدَّة البردِ النَّاهش في أحشائي، أوشكُ على إضرام نوروز.
أنا خائف.
من خوف وذعر عينيَّ المندهشتين، أوشكُ على ردِّكم عن بابي، عائداً للنوم..
وحيدٌ أنا…
ومن فرط الوحدةِ، أوشك على فتح بابي لكم، ثانيةً، وأدعوكم جميعاً، للمثول أمام فيض هذا اليوم الكثيف المبلل.
هيَّا، تعالوا…
تعالوا، فقهوتي لا زالت ساخنة.
تعالوا، فصورهم لمَّا تزل أمام عينيَّ.
تعالوا، سأعرِّفكم على جميع رفاقي الثوَّار والصَّعاليك.
***
الرّمَّاح، الذي قبلكم، بلحظة، نفض غبارَ الجبالِ عن نفسه، ولا أعلم في أيّ الكتبِ استسلم للنّوم، قد كان آخر فرسان قلعة “دمدم”.
كان رمحه، محفورٌ عليه، ختمُ الأمير ذو الزَّند الذَّهبي.
في سنينِ القمح والسَّلام، كان يعزفُ على التُّراب الأحمر.
في السِّنين التي يذبل فيها النَّرجس، كان يراضي ويهدد تراب «دمدم» البارد، بأغاني الانتفاضات المنهارة، و”الأشجار التي تموت واقفة”.
ومذَّاك، سيرةُ «جار جرا»، وشنقُ «الأشجار التي تموت واقفة»، وتمرُّداتي وانهياراتي، كانت تتقاطر على ذاكرته.
وماذا أقول لكم…
التقينا صدفةً في ذاكرته.
هناك، اندلعت ثورتنا وهناك انهارت.
هو، عاد لجوفِ الكتاب ذاته، متوسِّلاً النَّوم.
أمَّا أنا، فلمَّا أزل هنا، أقيس عمري مرَّةً، كلَّما مرَّت بيَّ بضع لحظات.
***
قهوتي، توشكُ أن تبرد.
ولا زال باكراً على قراءةِ الفنجان…
قبلاً، لم يكن مهدوراً دمه.
ولم تكن تخطر في باله عروس المطر، رضيعيَ الــ”بن ختي”.
ويوم شاءوا فطامه، رأوا بين حقول القمحِ غيمةً ميّتة.
كان يوماً مبللاً.
رجعُ صدى ثلاثةِ صرخاتِ استغاثة، كان يديرُ فنجانَ الدَّم.
أيُّها الأحياء…
منْ فارسُ التُّرابِ الأحمر؟!.
من هو شاعرُ السُّؤالِ والشَّكّ؟!.
من كان يخطرُ على بالهِ عروسُ المطر؟!.
أيُّها الأحياء..!!…
الذين لبّوا استغاثة التُّراب، من حقول القمح، وحتّى حقول الألغام؟، أحصوا أثر خطى ثلاثة وثلاثين سؤالاً.
والذين لبّوا استغاثة السُّؤال، أحصوا موضع ثلاث وثلاثين رصاصة في ظهر تلك الغيمة القتيلة.
والذي فُطِموا عن الحليب توَّاً، لبّوا نداءَ عرائس المطر، مرددين:
هذهِ وليَّةُ القمح.. القمح.
قمحنا مصابٌ بالحُمَّى.. بالحممممى…
مُذاك اليوم، كلَّما يُصابُ القمحُ بالحمَّى، يقوم شاعري، المهدور الدَّم، ومع حشدٍ من أطفال الـ”بن ختيه”، بتلاوة تعاويذ القمح والمطر على ضريح تلك القتيلة: “عروسنا تشتهي المطر. ونحن، نشتهي القمح الأحمر….”.
لا زال باكراً على قراءة الفنجان.
في بيروت، لا زال الوقت مبكراً، سواء كنتم مهدوري الدَّم ، أو كنت عشاقاً.
في بيروت…
أنا المتأخِّرُ، والمتأخِّرُ هو؛ شاعري المهدورُ الدَّمِ.
***
فِراشي إلى جواري، باردٌ.
شريكةُ فراشي، تأوّهٌ وأنينٌ بريٌّ، آتٍ من سيرة جبل “الكورمينج”.
ها هي، تعتِّقُ جسدي في جرابِ خمائرها، منذُ موسمٍ من الزَّمن.
ها هي، حُبلى، ومضى موسم على وجودها في حضرة ضياءِ الله.
هي تقول:
إنْ كانَ ذكراً، فليكن اسمه “ستير” (نجم).
وأنا أقول: وإنْ كانت أنثى، فليكن اسمها “ستير” (نجمة).
أوشك على الدفع بقصيدتي صوب المغيب.
لكنّ… أين أنا، وذلك اليوم الطّويل اللامبالي، جالس بجوار رأسي كفنجان قهوة….!.
يوميّات
منذ أمد، لم أتزحزح من أمام تلك النافذة…
هناك أصلِّي.. ارتشفُ قهوتي.. أعايد أمّي.. استقبل ضيوفي…
هناك… أعلن ثوراتي.. انتصر.. أنهزم…
وهناك، في الهزيع الأخير من الليل، أضاجع امرأةً.. و.. هناك…
منذ أمد، أودُّ أن أدعو نفسي لأمسية..
لكنّي، غائبٌ!!… منذ أمد.
2
ضجرتِ الجدران منّي وملَّت.
تكادُ أن تجهض!!.
3
هم، لم يكونوا يدرون…
بأنني الآن، أعبرُ الظلام تلبيةً لاستضافة.
في الظلام، حين كنتُ وإيَّاهم سواء، نتبدَّى بلا ألوان…
أمَّا الآن، لستُ مثلهم.
فلا تحرِقوهم بجريرة آثامي!!.
4
سابقاً، قبل هنيهة، أهديتهم شيئاً من زينة أمِّي…
اليوم، قبل هنيهة، حين صادفتُ مجموعتي الشِّعريّة الأولى…
بدتْ لي، جميع قصائدي، خاليةً من أساور وحلقات وخلاخيل أمّي.
5
أربعةُ أيَّام، يفصلنا عن حلول النوروز.
المسافرون الآتون من الطرف الآخر، يرتدون صور السيانيد، قائلين: إنَّهم، بدأوا الاحتفال منذ الأمس…. هناك.
6
حين كنتُ أتوق للوطن…
كنتُ أعلِّمُ إحدى قصائدي الفروسيَّةَ، وأدجِّجها بالرُّمح والدِّروع، وأطلقها صوب الجبال.
الآن، حين أتوقُ للوطن…
فقط، أشفقُ على قصيدتي الأولى، وأندم.
7
في هاتيك السنة، أودى الوطن برأس أحد شباب قريتنا.
8
وقعت إحدى فتيات قريتنا في هوى الجبال.
9
في هاتيك السنة، كانت الجبال تلتهم عشَّاقها…!!.
10
ليس لأنَّها سقطت من جيبي، أو نسيتها في مكان ما.
وربما يقرأها أحدكم… فأنصتُ أنا أيضاً.. وأتيقَّن بأنَّ ذلك لم يكن حلماً.
11
كلَّما آتيكِ في الحلم، أجدُ إحدى قصائدي نائمةً في حضنكِ…!.
12
متى سيذوب نهداكِ؟.
فهذا الثلج المتراكم على شفتيَّ، أضناه النعاس..!!…
13
منذ أمد، أودُّ الخروج لاصطياد الرِّيح.
وحين أبدأ البحث عن نفسي، كي أُطفئُ سيجارتي، أو أسحب نظراتي من على فنجان القهوة.
حين أبحث عن نفسي، لأدعوها إلى الأزقَّة الشريدة المتهوِّرة، وإلى أمسيات الوحل والمطر.
لا أكون هناك…
لستُ حاضراً، ولا أعلمُ منذ متى غادرت، تاركاً هذا الباب مفتوحاً على مصراعيه!.
ها أنا ذا، لا زلتُ هنا…
لم أنهض من أمام هذه النافذة.
أودُّ العودة لاصطياد الرِّيح، ولو لمرَّة، لكنّنيَ، غائب.