كنت أزور الصديق صلاح باستمرار في مكتب الاتحاد الوطني الكوردستاني بدمشق، وهو كان دائم الابتسامة، بشوشا، لطيفا؛ طيب المعشر، رقيق الحاشية، منهمكا، أبدا، في ترتيب القصاصات، وأرشفة المواد الصحفية أو كتابة بيان أو تصريح أو بلاغ على الكمبيوتر. كان يعيش وسط فضاء ملون من الأوراق والصحف والمجلات والكتب. لكنه كان يتأفف، قليلا، من حضوري، فبقدر سروره بزيارتي، كان يعلم بأنني سأغرق غرفته بدخان السجائر، هو الذي واظب على إتباع نظام صحي صارم. كان يدع ضيوفه على راحتهم ويفرض عليهم شرطا واحدا وهو ألا يدخنوا (وهو كان محقا في ذلك حرصا على سلامة الأصدقاء وسلامته) ولكنني كنت اخرق هذه القاعدة، في أحيان كثيرة، وهو كان يستسلم إزاء تصرفي، لأنه، بدماثته ولطفه، لم يكن قادرا على إغضاب صديق من اجل بضعة سجائر… فيتحمل الأمر على مضض ويمضي في سرد حكاياه وقصصه، وينثر ضحكاته في أرجاء المكان، وكنت، بدوري استغل لطفه هذا متناولا السيجارة تلو الأخرى، وربما قد حان الأوان لأن أقدم له اعتذارا متأخرا، رغم يقيني، بأنه، لو كان بيننا لما قبل هذا الاعتذار، فهو متسامح بلا حدود، لا يستطيع حمل الضغينة تجاه أحد، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بسيجارة.
قبل نحو ثلاثة أشهر زار مكتب الاتحاد فاصطحبته معي، وذهبنا معا إلى السفارة العراقية بدمشق حيث أعطى كتابا لصديق له، ومن هناك ذهبنا إلى مقهى توليدو “طليطلة” الذي شهد ولادة الاتحاد الوطني الكوردستاني في منتصف سبعينات القرن الماضي. آنذاك، كانت بقايا الأمل لا زالت تسكن نظرته الوديعة، وراح يتحدث، بقليل من الوهن، عن مشاريعه القادمة، وعن طموحاته الكثيرة، لكن عيني لم تكن تخطأ غلالة الحزن التي طفت على محياه. كان يشعر أن ثمة قدرا مجهولا قاسيا يترقبه عند منعطف قريب، وكنت ألمح ظل هذا التوجس الخفي على زوايا الطاولة، فأبكي بصمت، وأمنع دمعة حرى من السقوط لئلا أخدش مشاعر هذا الصديق السائر بخطى وئيدة لمعانقة لموت! صديق سخر عمره للثقافة الكوردية، وأفنى زهرة شبابه لأجل قضية شعبه، وأمضى سنوات عصيبة في كوردستان وإيران إلى أن استقر منذ سنوات في دمشق حيث أسس مع رفيقة دربه الإعلامية والكاتبة لمعان إبراهيم أسرة متحابة: اثنان من أولاده يدرسان الهندسة المعمارية في جامعة دمشق، بينما ابنته الوحيدة تتابع دراستها الثانوية في الصف العاشر.
سنشتاق كثيرا إليك يا صلاح، ستشتاق إليك دروب دمشق وحواريها وشوارعها ومقاهيها من مقهى الروضة إلى دار المدى إلى دار الينابيع إلى حي المزرعة إلى نادي الصحفيين إلى ساحة شمدين وصولا إلى منزلك الغافي على منحدرات قاسيون حيث تعانقها الشمس عند شروقها الأول على المدينة، ستشتاق إليك دور النشر والمطابع والمكتبات وصالات الفن التشكيلي، وسيظل مكانك فارغا في أي مكان حللت فيه. لكن ذكراك ستظل علامة مضيئة في حلكة الأيام، ونبراسا لأصدقائك، وعونا لهم في سفر الكتابة والبحث والإبداع، وستبقى روحك مشعة في حدائق الحرف المقدسة، وسيبقى اسمك عنوانا للأصالة والإخلاص ممتدا من منطقة برواري حيث ولدت، إلى منطقة عفرين التي احتضنت رفاتك، وأرخّت لرقصتك الأخيرة؛ رقصة الحجل الموجع؛ الجميل!!!