يسرى علي
في يومٍ من الأيام …
ما من أحدٍ كان يجرؤ النزول في البئر …، وحده أبي كان يخاطر النزول فيه كلما نضب ماؤه وقل سخاؤه أو دعت الحاجة لذلك، كان يرمي بأدوات الحفر أولا ً ثم يحزّم خاصرته بحبل متين نشدّه نحن في الأعلى ونرخيه بعد مداس كل قدم وحجر، إلى أن يصل لنهاية الأحجار المرصوفة في الأعلى والمتدلية من الأسفل بلا ارتكازٍ أو سند، ثم يمسك بالحبل النازل من على البكرة ويتدلى منه رويداً رويداً، وما أن يصل الى قعر البئر بصعوبة حتى يفك ارتباط الحبل به ويتفقد أدوات الحفر التي سبقته، ثم يباشر العمل، وينهمك في الحفر بلا هوادة ولا يسمع منه سوى أنينٌ متزايد وهو يهوي بقزمته الحادة دون أن يهابه وقع ضرباته القوية ولامنظر البئر من فوقه وهو في ضيق ٍ واتساع كما عنق الزجاجة،
ولساعاتٍ طوال كانت أمي تساند الحبل في الأعلى وتعيد استقراره في المنتصف، بينما كانت البكرة تصدر صريراً حاداً تحت ثقل الأسطل المملوءة بالماء والكيل اللزج، بعضه كان يتساقط إثر اصطدام السطل بجنبات البئر، فيجن جنون أبي ويتملكه الغضب فجأة ، ويصيح بأعلى صوته : لماذا تفعلون بي هكذا … أأنتم عميان يا …… وتمازحه أمي في دعابة وهي تسقط عليه مرآة ً عاكسة ً لا يبدو منه سوى كتلة تتحرك في ضجر : أنت من تملأ الأسطل وتثقلها يا رجل، أولادك لا يستطيعون، لقد تعبوا … وتقطعت أوصالهم وتمزقت كل الجوارب التي لبسوها في أيديهم …. لماذا لاندعك في البئر تحفر كل الوقت، فأنت لا تتعب ولا يهمك تعبنا وأن حلّ المساء، ثم تلتفت نحونا بفيض من الحب والحنان وتتقصد مناداتنا كل بإسمه، وتبدأ بالصغيرة (يسرى) ليسمع هو في البئر: هيا هيا أسحبوا ببطئ فلم يتبق إلا القليل لترتاحوا بعدها … فيدرك أبي سر النداء ويصيح بصوت يزاحم الأنين: نعم لم يتبق إلا القليل … سطلين وأكتفي.
وتبشّرنا الأم بعدها بفرح عارم: ألم أقل لكم (يورم )، هيا لا تتكاسلوا وتحضّروا لإخراجه، وحينها فقط كانت تنفرج أسارير وجوهنا وترتسم البسمة على شفاهنا من جديد كمن أفرج عنهم بكفالة أخراجه من البئر.
الآن وبعد مضي ما يقارب ثلاثون عاما ً على بئر الذكريات هذا، تم ردمه مؤخراً وسوي بالأرض تماماً، ورحل أبي بقلاعه كلها، ورحّلت أمي برحيلها حلاوة كل شيء، ولا شيء سوى أن الزمن قد فجّع بأكثر مما متّع وأوحش فوق ما آنس …. ولا يزال
* (يورم ) كلمة تركية الأصل وتعني (بُني )، واعتادت أمي أن تنادينا بها… رحم الله كلّ الأباء والأمهات .
والرحمة والمغفرة لأرواحهم المعطأة والكريمة.