ابلع ريقي بمرارة

عبدالحميد جمو 

مازال قابعا في بيته الريفي. يجلس أمام نافذته المطله على فسحة الدار الساكنة سكون الموت. لا شيء فيها يوحي بالحياة إلا فحيح الأوراق المصفرة المتساقطة، وهي تتحرك عشوائيا كأنها تحاول الفرار أو تبحث عن ممر لتهاجر من دون حقائب، كما فرت الحياة من المكان ذاته. فسحة أشبه بالأطلال موحشة مرعبة كئيبة.  وحيد لا يؤنسه في وحدته سوى عشرات الصور المعلقة على الجدران التي تنعكس على النافذة، بابتسامتها، وضحكاتها. بفرحها وشجونها، وتاريخ طويل و مرير من الزمن. نضال من أجل حلم بدا كابوسا.  ذكريات ومآس كلها مختزلة في قصاصات ملونة تبدو وكأنها تخفي غبار السنين عن الجدران، بهيئته الشاحبة والأخاديد التي رسمت على وجهه، يتأمل قطرات المطر التي تتقافز بحيوية فوق الأرض تداعب ذرات التراب وتضرب أحيانا بلور نافذته كأنها تلاطفه محاولة لفت نظره لعنفوانها المتجدد، وهو جالس سارح يرتشف قهوته بيده المرتجفة تشاركه فيها أرضية  الشباك.
 ينفث دخان لفافة التبغ في الأرجاء لا يلتفت نظره الشاخص إلى البعيد، لا يأبه بما يحدث من حوله وما تفعله تلك القطرات المراهقة اللامبالية. يتجاهل شقاوتها ينظر إلى فقاعات الماء التي تطفو فوق سطح ماء المطر المتجمع في حفر الإهمال، ما إن تسبح حتى تأتي قطرة رعناء تفرقعها وتمحوها، يهز رأسه  يقارن الحدث بما حدث لمن حوله، يركز نظره على القطرات التي تتزحلق فوق أوراق شجرة التوت المعمرة وكأنها تذكره بأرجوحة أطفاله التي صنعها لهم من الحبال التي علقها بغصن متين تحت ظل الشجرة، وأغصانها المشردة التي تلاعب الريح بفوضوية تملأ المكان. تضرب تلك الأوراق البائسة المنتشرة بلا حول تغرق بعضها في المياه  ويتفتت بعضها الآخر ويتطاير عاليا
وبين لحظة وأخرى تلفح بشدة الأوراق المخضرة فوق الأغصان فيتساقط بعضها و يصفر بعضها الآخر من هول الرهبة. 
يمسح عينيه الغائرتين في مغارتيهما. تحتد  ملامحه تزداد رجفة يديه وشاربيه الشائبين المصفرين من أثر دخان التبغ  كصفار الخريف. يهتزان كبناء أصابه زلزال ينفث دخان تبغه بعنف، كمن ينتقم من عدوه، ثم ينظر إلى اللفافة المحبوسة بين كماشة أصابعه التي بدأت تلذع يده. يبصق ويرميها على الأرض ويدوسها بقدمه، ويخرج أخرى يشعلها. لا أحد يعرف ماذا  يدور في خلده. يتنهد يبتسم  لا يتحدث. يدندن أحيانا وعيناه تذرفان آلاف الحكايا 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

بدعوة من لجنة الأنشطة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، وبالتعاون مع ممثلية اتحاد كتاب كردستان، احتضنت قاعة كاريتاس اليوم١٧-٨-٢٥ في مدينة إيسن ندوة نقدية موسعة حول رواية “كريستال أفريقي” للروائي هيثم حسين.

أدار الندوة التي حضرها جمهور نخاوي من الكتاب والشعراء والصحفيين ومتابعي الأمشطة الثقافية
الناقد صبري رسول، وشارك فيها عدد من الأدباء والنقاد…

بهرين أوسي

تقف الأديبة الشاعرة الكردية مزكين حسكو في فضاء الشعر الكردي الحديث، شاهدة على قوة الكلمة في مواجهة تشتت الجغرافيا. جبل شامخ كآرارات وجودي لم تنل منه رياح التغيير القسرية.

شاعرة كرّست قلمها لرسم جماليات الهوية الكردية من منفى اختاره القدر، فنسجت قصائدها بلغة أمّها كوطن بديل يحمل عبق تلال كردستان ووجعها. كما تقول في إحدى…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

كان في صدري شرفة تطل على سماوات بعيدة،
أعلق عليها أمنياتي كفوانيس صغيرة،
حتى وإن كانت الحياة ضيقة، كنت أزيّنها بخيوط من الأمل،
أجمع فتات الفرح، وأصنع منه أحلامًا تكفيني لأبتسم.
كنت أعيش على فكرة التغيير، أتنفسها كل صباح،
وأخطط، وأتخيل، وأصدق أن الغد قد يجيء أجمل.

أما الآن…
فالنوافذ مغلقة، والستائر مثقلة بغبار الخيبات،
وألواني باهتة، وفرشاتي صارت ثقيلة بين…

عِصْمَتْ شَاهِينْ اَلدُّوسَكِي

وَدَعَتُ فِي نَفْسِي ضِيقَ الْحَيَاة

وَأَلَمَّ الْأحْزْانِ والْجِرَاحَات

أَذْرُفُ الدُّمُوعَ بِصَمْتٍ

كَأَنِّي أَعْرِفُ وَجَعَ الْعَبَرَات

أُصِيغُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَحْدَتِي

بَيْنَ الْجُدْرَانِ أَرْسُمُ الْغُرْبَات

 

**********

يَا حِرمَاني الْمُكَوَّرِ فِي ظَلَامي

يَا حُلُمي التَّائِهِ فِي الْحَيَاة

كَمْ أشْتَاقُ إلَيْكَ وَالشَّوْقُ يُعَذِّبُنِي

آَهٍ مِنْ شَوْقٍ فِيه عَذَابَات

لَا تَلَّومْ عَاشِقَاً أَمْضَى بَيْن سَرَابٍ

وَتَرَكَ وَرَاءَهُ أَجْمَلَ الذِّكْرَيَات

**********

أَنَا الْمَلِكُ بِلَا تَاجٍ

أَنَا الرَّاهِبُ بِلَا بَلَاطٍ

أَنَا الْأَرْضُ بِلَا سَمَوَات

وَجَعِي مَدُّ الْبَحْرِ…