نَصر مُحمَّد / ألمانيا .
لِأنَّ المَرافئَ
تحوَّلتْ إلى منافٍ
أضعُ بينَ يديكَ
بعضاً منْ رحلتي
بهذهِ الكلمات أهداني الصديقُ الشاعرُ السِّرياني الأصيلُ جُوزيف كوريَّة مجموعتَهُ الشِّعريَّةَ ( مَرافِئ ) ، عندَما التقيتُ به في مدينة كولن الألمانية ، على هامش الأمسية الشعريَّةِ التي أقامَها مُنتدى الطعَّان الثقافي ، سُعِدتُ جداً بقراءتها ، و كانتْ لي هذه القراءةُ المتواضعةُ لها .
قبلَ أنْ أدخلَ عالمَ القراءة من بابها الكبير ، عليَّ أنْ أتقدَّمَ للقارئ بلمحةٍ عن الشاعر جُوزيف كوريَّة .
جُوزيف كوريَّة شاعرٌ يؤمنُ بترابط الموسيقا معَ الشعر ، فهما عندَهُ روحان في جسدٍ واحدٍ ، و لا يُمكنُ تصوُّرُ الشعر بمعزلٍ عن الإيقاع و الوزن ، فهو الذي يُضفي جمالاً على بُنيان القصيدة ، و يُولِدُ حالةَ الطرب عندَ قارئها أو سامعها مُعتبراً أنَّ أيَّ خُروجٍ عن هذه الإيقاعات و ضوابطها قد يُصيبُ القصيدةَ بالنشاز .
جُوزيف كوريَّة :
شاعرٌ سوريٌّ مُقيمٌ في هولندا منذُ عام ٢٠١٤م .
وُلِد في مدينة القامشلي عامَ ١٩٨٠م .
درسَ الأدبَ العربيَّ في جامعة الفُرات ، كما درسَ الترجمةَ الإنكليزيَّة في جامعة حلبَ .
إنَّهُ شاعرُ يكتبُ الشعرَ بلغاتٍ عديدةٍ ، و على رأسها العربيَّةُ و السِّريانيَّةُ ، إضافةً إلى اللهجات المحكيَّة كالشاميَّة والسريانيَّة
و الجزراويَّة والفُراتيَّة ، و كتابته العديدَ من الأغاني و تلحين بعضها .
له مجموعتان شعريَّتان مطبوعتانِ بالعربيَّة الفُصحى ؛ واحدةٌ بعنوان (خبِّئيني في حُلم) والأخرى (مَرافِئ) .
لهُ أنشطةٌ فنّيّةٌ ، منها مشاركاتُهُ في مهرجانات دوليَّة ، مثلَ : بُصرى ، تدمر ، طريق الحرير ، دورة المتوسط …
يُشاركُ منذُ وصوله إلى أوربا في فعاليات شعريَّةٍ عديدةٍ ، و خاصَّةً في هولندا و ألمانيا و السويد ، و لهُ نصوصٌ باللغة الهولنديَّة ، حيثُ نشرتْ عنهُ الصحافةُ الأوربيَّةُ ، و استضافتْهُ بعضُ محطَّات التلفزة .
أسَّسَ منذُ عام تقريباً مُؤسَّسةَ (سوريانا للثقافة و اللغات) في هولندا ، و التي تتضمَّنُ مدرسةً لتعليم اللغة العربيَّة .
لعلَّي أبدأ قِراءتي من بداية الديوان ؛ أي من الإهداء :
وطني الحبيبَ سوريا
يوماً ما ستُكوِّنانِ نحنُ
بجمالِنا و صدقِنا
بطُهرنا و عُهرِنا
بكلِّ ما لنا من حقٍّ
و ما فينا من خيرٍ
ستُكوِّنانِ نحنُ و لنْ تكونَ سِوانا
يوماً ما ستحُجُّ إليكَ جميعُ السفنِ
وتأوي إليكَ قوافي المسافات
وطني الحبيب
إليكَ أهدي رحلتي
ما بينَ دفَّتَي حدودِكَ و اللامكانِ
أصررتُ أنْ أوردَ الأهداءَ ، على نحوٍ كاملٍ ، حيثُ رأيتُ أنهُ يكادُ يكونُ العتبةَ الثانويَّةَ الأكثرَ إضاءةً لعالَمِ نُصوصِ المجموعة .
يقولُ في قصيدة ( النَّارنجُ الدِّمشقيُّ ) :
ماذا أقولُ إلى النَّارنج لا أجدُ
الشعرُ يعجزُ و الأبياتُ ترتعدُ
للياسمينِ الذي في صمتِهِ ألمٌ
إنَّ الحروفَ بوصف الحزنِ لا تردُّ
أستغفرُ اللّٰهَ هل خاصمتُ آلهةً
حتَّى كأنِّي عليَّ الكونُ يستندُ
أدنو بعيداً فلا جدوى تهديني
كأنَّني قمَّةُ الأعرابِ تنعقِدُ
أخفضْ صوتَ المِدفعِ
أخفضْهُ قليلاً كي نسمعَ
لا عيناً بقيتْ كي تدمعَ
لا ظُفرَ باقٍ كي يقلعَ
أخفضْ أخفضْ أخفضْ
لا أيدي تمتدُّ فتقطعُ
لا جرساً يشدو كي يقرعَ
حملنا الريحَ رسائلَنا
و طرقْنا أبوابَكَ فاسمعْ
فأنا السوريُّ إذا ضاقتْ
دُنياكَ فلا صدراً أوسعُ
كفني يتحرَّكُ فوقَ الأرضِ يُلاحِقُني
نتلاقى .. نسهرُ ..كلُّ دمارٍ يأتيني
يتركُ تذكاراً في جسدي
و يُصافِحُني يدُهُ بيدي
يقتاتُ على حُزني الأبدي
و أنا عنْ حُزني لا أقلعُ
فاتورةُ بلدي سلسلةٌ
يختمُها سهمٌ أو ( يتبعُ )
المُبدعونَ في الأدبِ و الشعرِ ليسوا خليطاً مُظلماً ، بل انعطافةَ سيلٍ من الأفكار المُتزاحمةِ بمنهجيَّةٍ مُطَّردةٍ لبناء القصيدة على المُستوى الفنيِّ ، و بلوغِ أقصى ما يُمكنُ من وصف منهجيَّةٍ بعينها .
إنَّ نمطَ القصيدة لدى الشاعرِ جُوزيف كوريَّة في ديوان ( مَرافِئ ) ، هوَ اقتحامٌ كَمِّي المُشِعِّ لبُنية التوجُّهِ الإبداعي الرادع للخِواء ، و تنوير أريحيَّةِ المُتلقِّي ، ليسَ على أساسٍ آني ، فيبحرُ الشاعرُ كوريَّةُ في دلالة الكلمة ، فيقولُ في قصيدة ( مدنُ السُّكَّانِ المَنسِيينَ ) :
عِشنا منَ العُمر الطويلِ حكايةً
أحداثُها منسيَّةٌ
لنْ تذكرَ
و العُمرُ أجملُ ما يكونُ قصيدةً
من وردةٍ تشدو
أعفَّ و أطهرا
لنْ تذبُلَ الأحلامُ من شُرفاتِنا
لا بُدَّ أنْ يصلَ الربيعُ
لِتزهرا
القامشلي حاضنةُ الجَمال ، مُختزلةُ جمال الإنسانية ، نعمْ هيَ استمرَّتْ في التحريضِ الروحي على الإبداع .
مدينةٌ مُلوَّنةٌ جداً عميقةٌ ، و الحيُّ الذي وُلِدَ فيه الشاعرُ جُوزيف كوريَّة و تربَّى هو الحيُّ الغربيُّ .
هي مدينةٌ بأبعادٍ غير محدودةٍ : سوريَّة ، عربيَّة ، كرديَّة ، أرمنيَّة .
فيقولُ في القامشلي :
حيَّ المنازلَ إذْ أصحابُها اندثروا
يبكي رحيلَهم الأسمنتُ و الحجرُ
يا بيتُ عُدْ بي إلى أرجاءِ نشوتِنا
فالوَجدُ يَسري بأعماقي و يستعرُ
يا موطنَ الحُبِّ ، و التذكارُ نبضُ دمي
بيني و بينَكِ شِريانٌ بهِ خثرُ
تزورُني حُلماً .. كالروحِ تلبسُني
و الحُلمُ يكسرُني حيناً وينكسرُ
و المرأةُ في قصائد كوريَّة هي المُلهمةُ ، و هي الدائمةُ الحُضور ، حتى لو كانتِ القصيدةُ لا تخصُّها مُباشرةً ، و لكنْ تراها حاضرةً بشكل عفوي ، حتى لو خاطبتِ الوطنَ أو الأرضَ ، أو كتبتْ عن الطفولةِ و عن الحربِ … قد تُخاطبُها من خلال المرأة أو تعرجُ عليها على الأقلِّ .
ربَّما في مرحلةٍ ما ، امتزجَ الشعرُ العُذريُّ بالماجنِ ، و لكنها بقيَتْ و تبقى الحنونةَ و الرقيقةَ و الصديقةَ و الشقيقةَ .
يقولُ فيها :
إنَّا افترقْنا
حتى العصافيرُ التي أخبرتُها
أقسمتْ ألفاً بأسمِكِ
إنْ غابَ عني حبُّكِ
ما صدقَتْنا
يختمُ الشاعرُ كوريَّةُ مجموعتَهُ الشعريَّةَ بقصيدة ( السَّلامُ للإنسانيَّةِ ) ، و التي كُتِبتْ بستِّ لغاتٍ هي : السريانيةُ ، والعربيةُ ، و الكرديةُ ، و الإنكليزيةُ ، و الألمانيةُ ، و الهولنديةُ ، حيثُ أرادَ منها الوصولَ إلى قلوبِ جميع البشر ، و لو أمكنَهُ الكتابةَ بمئة لغةٍ لما تردَّدَ في ذلكَ ، فيقولُ فيها :
حرِّرْ ضميرَكَ سرُّ الكونِ إنسانُ
حرِّرْ فدونَكَ كُلُّ الكونِ بُطلانُ
أنبتْ فؤادَكَ من حبٍّ بلا كدرٍ
هيهاتَ تُبنى بغيرِ الحُبِّ أوطانُ
و ارعَ الطفولةَ إنْ غابتْ ملاعبُها
لا تغمِضِ السمعَ إنْ ناداكَ جَوعانُ
أوقفْ رَحاها فهذي الحربُ دائرةٌ
و القتلُ لهُ دينٌ و إيمانُ .