إبراهيم محمود
اليوم” الاثنين، 4-9/2023 ” كان الرحيل الأبدي لسليل عائلة طرب كردية، تمثّل ذاكرة غنائية كردية، وتجيد فن إمتاع الآخرين من الكرد بموسيقاها وكلماتها، كان رحيل عبدالقادر سليمان، بعد معاناة طويلة مع المرض، وشهدت دهوك نهايته الأليمة، وهي تحتضن أهلاً وأحبَّة له في مشفاها، وليجري دفنه، كما أراد ذلك، في مقبرة ” شاخكى “، كما هي وصيتُه، وهو يصف أرض إقليم كردستان بأنها جنّة.. دفِن في تربة هذه الجنة، ولكن أي وجع رافقه، وأي ألم خلَّفه وراءه ؟
سأركّز على نقطة في غاية الأهمية وهي لا تخفي سلبية المتردد حولها، وهي أن كردنا، ربما لدى الكثيرين منهم، كانوا يسمّون من يغني بصورة عامة، وفي الأعراس على وجه التحديد بأنه ” متّرب ” أي ” مطرب ” بالعربية “.
تسمية لا تخفي خلفيتها الدالة على بؤس النظرة إلى من كان يتعلم العزف على آلة موسيقية ( حتى قبل عقود قليلة من السنين، كان الذي يحمل آلة موسيقية في بيته، يساء إليه، وكأنه مثل الـ ” متّرب “، متأثرين بتوجه ديني ) وتالياً، تغيرت هذه النظرة، من خلال إقبال كثيرين ممن يتلمسون في الموسيقا نكهة روحية، وعنصراً كبيراً في الفن، وبالنسبة للكرد، والذين حرِموا طويلاً من التعلم بلغتهم: قراءة وكتابة.
الراحل عبدالقادر سليمان، فنان ابن فنان، فوالده الراحل سليمان كان فناناً، وله مكانته تشهد لها أعراسنا الكردية في روجآفا كردستان في النصف الثاني من القرن العشرين.
هؤلاء الذين كان ينظَر يُستخَف بهم، كردياً، هم الذين أغْنوا الثقافة الفنية الكردية: غناء وموسيقا، وألهموا من جاؤوا بعدهم من الذين اعتبروا مجرد حمْل آلة موسيقية، أو الظهور بمظهر المغّني، تقليلاً من قيمته في المجتمع . هؤلاء ” وعائلة رمّو بالذات ” هم الذين رفدوا الذاكرة الكردية، والروح الكردية، حين كان هناك حظِر على الثقافة الكردية، في لغتها، بما يعمّقها ويوسّع حدودها. والتاريخ يشهد لهم على مثل هذا العطاء الكبير وغير المقدَّر.
من يستطيع، في هذا السياق أن يتجاهل عظمة روح الفن في الصوت والموسيقا للفنان سعيد يوسف، والذي يشكّل في الكثير مما عرِف به مدرسة فن كردية، بكل معنى الكلمة ؟
يا لها من مفارقة، حين كان الراحل سليمان، أو ابنه الراحل اليوم، يعزف على آلته” البزق ” ويغني، وهو ينوّع في أغانيه، ويخلص لفنه الغنائي، في عرس ما، لتتسع حلقة الرقص، ويظهر الطرب في وجوه من يرقصون كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً، ولأيام تدوم ” كان العرس حتى قبل عدة عقود من السنين يستمر لمدى أسبوع، وفي مقدور أي كان أن يحسب ما يعنيه الغناء هذا ونوعية الأغاني لفنون رقص مختلفة، وصلتها بالواقع اليومي .
كان الصوت المغنّي لأفراد هذه العائلة، ومنهم الراحل عبدالقادر سليمان، مناسبة حية، لكي تنفتح قلوب الداخلين في حلقة الرقص أو المدعوين، وهم يسرحون مع خيالات بهيجة، ومقاصد عشقية، وتجاوب مع نوعية الأغاني ذات الصفة الشعبية وغيرها، وما في ذلك من انفراج عن المكبوت، وعما هو مشتهى، وتعابير عن رغبات تقوّي صلة الموجود بالحياة .
لا أعتقد أن هناك من تناول الدور الكبير، لا بل العظيم لهؤلاء الذين كان يقلّل من مقدارهم في المجتمع، وفي الوقت نفسه، كانوا محط أنظار الجميع، في الحفلات، وفي الأعراس خصوصاً، وحيث تعبّر كلمات أغانيهم وتلك الموسيقا التي تلامس قلوب المدعوين في الصميم، ووقتذاك، وكأنها بلسم جراحاتهم، كأنها ” جاءت في وقتها ” تماماً .
أستطيع أن أقول ما يعزّز هذا المقام ” المحمود ” لهؤلاء الذين منحوا كردهم ما باتوا يعتبرونه روح الفن، ونبض الثقافة الشعبية، ودعامة الحياة لتنوع موضوعاتهم المغناة. حيث إن الذين كتبوا عرِفوا بأشعارهم من كردنا، وحينها، لا يُستبعَد، أنهم كانوا مؤثّرين في خيالاتهم، وشكّلوا حلَّقة وصْل كبيرة بينهم، وبين عامة الناس من الكرد، من خلال معرفة طبيعة تجاوبهم مع طرَبهم.
الراحل عبدالقادر سليمان، كان المخلص الكبير لفنه الكبير في الصوت والصورة، وليس لأي كان، وأن الشجرة التي تحمل اسمه ، أثمرت صوتاً جميلاً، أي ” دليل عبدالقادر سليمان “.
هذا الفن الصريح بجميل محتواه، وبتاريخه الأثير، ومقامه الفني الكردي في العمق، يشكل شهادة حيّة على أن الذين مثّلوا ولادة فن الطرب الكردي في الغناء والموسيقى في منطقتنا، هم هؤلاء.
رحلة موفَّقة أيها الفنان الكبير عبدالقادر سليمان في طريقك الفردوسي، وعزائي لأفراد عائلتك، وأهلك وأحبتك، وكل من يحمل لتاريخ فن كهذا، أنتم رموز كبار فيه، ذلك التقدير المستحق .