ماجد ع محمد
عندما نتحدث عن الدور اللافت لمكتوبات الآخرين في إنقاذ المتلقي، لا يعني بالضرورة أيها القارئ أن المكتوب سيمسك بمعصمك بعزيمة الواثق مما يحمل من الأسفار، وسيأخذك مباشرةً إلى قصر شهريار ليريكَ كيف راحت شهرزاد تُنفِّذ يوماً بيوم مخطّط إنقاذ نفسها ومن وراء ريادتها تنقذ بنات جنسها من الموت المحتوم عبر سرد المشوقات ليلةً وراء ليلة، إنما قد تنقذك قصة ما عن الآباء من سطوة أبٍ لا يردعه غير براهين جاءت في سياق حكايا الأولين، أو تنقذك حدوته من غطرسة عناصر حاجز أمني ما، أو تنتشلك الأقصوصة من بين أنياب موقفٍ محرج في مجلس ما، أو يخلصكَ المثالُ المفوّه به من الكلام المضجر لشخصٍ يرافقك وبدأت تمل من عويله وشكواه المتواصل.
إذ عندما يعترض سبيلك عائق ما من تلك العوائق الشبيه بالعوالق التي عليك التخلص من حبائلها بالسرعة القصوى، تتذكر على الفور بأنك تحمل على كتفك كشكولاً فيه عشرات الحكايا والقصص التي قد تجد من بينها تلك التي تنجيك من الشراك التي وقعت بكامل بدنك وسطها، فتقلب المحتوى رأساً على عقب، أو تفرغه بجانبك علّك تجد مرادك، وحين يعينك شيء ما من محتوى الكشكول تتنفس الصعداء، وتعيد بينك وبين نفسك عبارة نيوتن الإيجادية ثم تشهرها بوجه صاحبك، أو بمعنى آخر تقصها على أسماعه لكي تحرمه من فتح فاهه بعد الاستماع إليها على أمل مقارنة حاله بحال الوارد فيها.
إذ ككل من أُجبروا على أن يتركوا الديار وقصدوا هذه المضارب لم تسعه الفرحة يومها عندما قال الخاقان عبر كل القنوات الإعلامية بأن صاحبنا ومَن في حكمه بمثابة الضيف المرحب به، وصار هو وكل أقرانه ضيوف البلد الأعجمي المجاور إلى حين، ولكن بما أن الحرب في بلده غدت كسيارة فقدت مكابحها وسط أوتوسترادٍ منحدرٍ مديد، لذا طالت مدة الاستضافة شهور وسنين حتى تجاوزت العقد، وهو ما يزال ضيفاً لا يعرف متى تنتهي مدة الاستضافة، ولا متى يتضايق صاحب الدار وينزعج من ثقل وجوده فيبدأ حينها بإزعاجه حتى يفكر بإنهاء الزيارة من تلقاء نفسه، بدلاً من أن يفكر صاحب المنزل بركله ورميه بالعنف والإكراه خارج حدود مملكته.
وعندما بدأ الضيف يتململ من طول مدة الاستضافة المؤقتة التي لا تسمح له بالإقامة الرسمية أو الدائمة، بالغ في الأسف على حاله بكونه رغم أهميته الذاتية وخدماته الجليلة التي خص بها البلد المضياف حسب زعمه، فإنه لم يُكافأ حتى بما يحصل عليه أي كائن حي يطأ إحدى الدول الأوروبية ويمكث فيها مدة 4 سنوات، إذ أن مسألة الحرمان من الجنسية غدت شغله الشاغل.
وبما أن في بعض الأسفار التي نغوص في بطونها فقرات إن لم تكن استشفائية فهي على الأقل قادرة على إنقاذنا من بعض المواقف وتخلصنا من الهواجس السيئة التي تطوقنا، لذا فبقدر تأففي من تكرار شكوى الصديق، داهمتني الرغبة في أن أخفف عنه شعوره بالإحباط، لذا ذكّرته بقصة علاّمة من بلاد الهند مقيم في المملكة العربية السعودية، علَّه في ختام سردها يقارن نفسه به من ناحية الخدمات الجليلة والإمكانيات العلمية، وعساه عقب المقارنة يكف عن التذمر للأبد، فحكيتُ له ما أورده الكاتب عارف حجاوي عن العالِم الهندي تحت عنوان: (في صدره ۱۲ لغة).
حيث قال حجاوي إن الدكتور عبد الرحيم فانيامبادي، هو رجل هندي مولود في مقاطعة تاميل نادو، لغته الأم الأردية، تجاوز الثامنة والثمانين من العمر وتعلم غيرها إحدى عشرة لغة، ويجيد هذه اللغات إجادة عالم متبحر، يتكلم ساعة بلا ورقة ولا يغلط في النحو غلطة، ويجيد اللهجة المصرية والسودانية والشامية والفلسطينية وبالطبع السعودية، قضى الدكتور عبد الرحيم في السعودية خمسين سنة يشرف على ترجمات القرآن، وهو المُعرَّب لموهوب الجواليقي، ورأيته في الهوامش يكتب لك الأصل اليوناني بالحرف اليوناني، والأصل العبري بالحرف العبري، والأصل الآري بالحرف السنسكريتي، وبالسرياني يكتب ويستعمل الفرنسية والإنجليزية والألمانية، فإن عرضت له كلمةٌ أصلها فارسي أعادها إلى الفارسية العتيقة (الفهلوية)، تحقيقه ذاك كان رسالة الدكتوراه، وكتبه بمصر، وبدأ من الأزهر رحلته مع العربية، کتب عبد الرحيم كتابًا عن أصول الكلمات الدخيلة في اللغة العربية، وكتب في الحديث والقرآن، له في مزايا الإسلام كتاب ألفه بالإنجليزية: وفي آخر دقيقة من مقابلة تلفزيونية امتدت ساعة سأله المذيع إن كان حصل على الجنسية السعودية فقال: (لا)، “يبدو أن عندهم في السعودية آلاف الأشخاص الذين يتقنون اثنتي عشرة لغة”؟! ولم أعرف بعد الاستشهاد الطويل إن كان الرجل قد عمل في ذهنه على مقارنة نفسه بالعلاّمة الهندي الذي يستحق عدة جنسيات عربية لقاء علمه والخدمات العظيمة التي قدمها للإسلام والمسلمين أم لم يعمل، ولكني بعد مدةٍ من السكون لاحظته يزم شفتيه وبقي محافظاً على صمته إلى حين طلب الاستئذان وقبل أن يغادرني ختم الزيارة قائلاً: يعني ضروري أكون مثل صاحبك عبدالرحيم حتى أستحق الجنسية بينما الكلاب في الدول الغربية يحصلون عليها من دون أن يقدم أي كلب منهم خدمات عظيمة للبشرية؟
وبعد مغادرته أحسست بأني جلبت إلى دياره أرطال القنوط بدلاً من أن أجعله يقتنع بواقعه عقب لجوئه إلى مقارنة الذات بالآخرين، ولكن بما أني لا أمتلك أي وسيلة مساعدة أقدمها له في هذا الإطار غير المواساة أو التشجيع، ولأني خلت بأن قصة العلامة الهندي أحبطته بدلاً من أن تشعره بالرضى، لذا قلت بيني وبين نفسي أن الخيار الأمثل ربما يكمن في تسفيره إلى واحة الشاعر المتصعلك تشارلز بوكوفسكي، وذلك بدلاً من أن أذكّره ببيت شعر الإمام الشافعي:” ما حك جلدك مثل ظفرك… فتول أنت جميع أمرك” لئلا يعتقد بأني أقول له عليك أن تقلع الشوك بيدك، فيفهم حينها بأني لستُ على استعداد لتقديم أي عونٍ مادي أو معنوي له، وإنما غرضي من المذكور هو أن يعيش لحظات الاكتشاف ويستمتع بإيجاد داء علته بنفسه، وذلك بدلاً من هدر طاقته في التشكي وقتل أوقات الآخرين في الإصغاء المضجر؛ لذا أرسلت له على الفور قصيدة الشاعر الذي قضى حياته متسكعاً في شوارع الحياة وهو يقول: “لا أحد إلا أنت”
لا أحد يمكنه أن ينقذك
إلا أنت
سوف يضعونك مراراً وتكراراً
في مواقف شبه مستحيله
وسوف يحاولون مراراً وتكراراً
بحِيَلهم، بهيئاتهم وقُدْرَتهم
لجعلك تخضَع، تستلم أو تموت
بهدوء في داخلك
لا أحد يمكنه أن ينقذك
إلا أنت
سيكون من السهل بما يكفي
أن تفشل
من السهل جدّاً
ولكن لا، لا، لا تفعل،
فقط انظر إليهم
استمع لهم
هل تريد أن تكون هكذا؟
كائن بلا قلب، بلا عقل، بلا وجه
هل تريد تجربة
الموت قبل أن تموت؟
لا أحد يمكنه أن ينقذك
إلا أنت
أنت جديرٌ بالإنقاذ
إنها حرب
و ليس بالسهولة الفوز بها
ولكن إذا كان أي شيء
يستحق الفوز فهو أنت
فكر في الأمر
وفكر بإنقاذ نفسك.
ولا أعرف حقيقةً إن كان الرجل قد قرأ الرسالة المرسلة إليه عبر الواتس أب واستفاد من مضمونها فعلاً أم لا، أم أنه قرأها على مضض ومن ثم تمتم في سره عندما أمعن النظر في المكتوب المرسل مرةً ثانية ومن الغضب طفق يشتمني ويشتم بوكوفسكي والشافعي والعلاَّمة الهندي معاً، ومن بعدها راح يجعلني مع المسرودِ المذكورِ مدخلاً مناسباً لشكوى جديدة له أمام شخصٍ جديد على أمل انتزاع وعد الفلاح المجاني منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: القصيدة مترجمة من قبل شريف بقنة الشهراني