عطر التذكار.. قصة من مدينتي

هيثم هورو 

-1-
خرج زوركين قبل بزوغ الفجر من داره، وهو يقود قطيع الأبقار والعجول نحو هضبة مطلة قبالة قريته، وهناك بدأت الأبقار تقضم الأعشاب بشراهة عجيبة، وعند حلول منتصف النهار، ساق زوركين القطيع إلى البئر الكائن في أسفل قريته، ثم استعار علبة معدنية مربوطة بها حبل طويل من هؤلاء الذين يرتادون إلى البئر، وبدأ بسحب الماء ويصبها في الأجران الحجرية الموجودة على أطراف البئر، وبعد ذلك أعاد العلبة إلى صاحبه مشكوراً .
ارتوت الأبقار ثم راحت وتربعت تحت ظل شجرة الدلب القريبة منها، وقامت بعملية الأجترار جماعياً أثناء استراحتها، وبينما كان زوركين متكئاً بظهره جذع شجرة الدلب لينال هو الآخر قسطاً من الراحة، طرق اذنيه قرقعة صفائح معدنية الفارغة تأتي من بعيد، فأمعن النظر إليها، فوجد ابنة قريته نوجين على ظهر حمار متوجهة نحو البئر، وعند وصولها ترجلت عن ظهر الحمار ثم رمت بدلوها المصنوع من الجلد الإصطناعي إلى جوف البئر، وباشرت بتعبئة الصفائح بالماء، وبعد سحب عدة دلوات، شعر زوركين من بعيد بأن نوجين وقعتْ في مأزق، هبّ من جلوسه حالاً متوجهاً إليها سائلاً : هل تحتاجين إلى أية مساعدة يا نوجين ؟ أجابت: نعم، لقد أفلت مني حبل الدلو في البئر ولا استطيع إخراجه، ثم قال لها زوركين لا بأس سأنزل واحضره لكِ، لكن شعرت نوجين بخطورة تلك المغامرة قائلة: لا..لا تفعل ! البئر عميق جداً ولربما تغرق، حينها لا استطيع انقاذك، احس زوركين بأن نوجين قلقت عليه جداً، لكنه اصر على القيام بذلك لإبراز شجاعته ونبل اخلاقه أمام ابنة قريته قائلاً : لا تقلقي عليّ يا نوجين .
-2-
قام زوركين بالنزول عبر جدار البئر رويداً رويداً لكن الذي حدث عند وصوله منتصف البئر انزلقت إحدى قدماه ! كاد أن يسقط، وحالاً صرخت نوجين بأعلى صوتها، انتبه جيداً يا زوركين ! لكنه كان قوي البنية تمكن من التشبث بالأحجار المحيطة بالبئر ثم تابع بالنزول مجدداً حتى وصل إلى الماء فمد يده والتقط حبل الدلو الذي كان عائماً على سطح الماء ووضعه في خاصرته، ثم بدأ بالتسلق صعوداً ونوجين في الأعلى متوترة وقلقة عليه كثيراً، وهي منحنية الظهر تراقب خطواته وتدعو له بالوصول دون أذية، وعندما اقترب زوركين من فوهة البئر، مدت نوجين يدها لتساعده إلى الخروج سريعاً، وفي تلك اللحظة الحرجة بينما كان زوركين ينظر إلى سحنة نوجين سحلت خصلة من شعرها الطويل من تحت غطاء رأسها فاخترقتها أشعة الشمس جعلتها خيوطاً ذهبية انارت عتمة البئر حيث انعكس بذلك على وجه زوركين وحينه حدق إلى عيون نوجين العسلية التي تحميها أهداب كحد السيف وسحرته بجمالها الذي يشبه فاطمة الكردية( المعروفة خطأً بالفاطمة المغربية) وعلى الفور سحبت نوجين يد زوركين بكل قوتها إلى أن خرج بقفزة صغيرة وسقط الاثنان معاً إلى الخلف وكادا يحتضنان بعضهما على المرج الأخضر هناك، عندئذٍ أشرقت وجه نوجين بابتسامة لطيفة وبانتْ لمعة بياض أسنانها اللؤلؤية من بين شفتيها الوردية، وفاحت في المكان أريج أنفاسها الذكيةالتي كانت محبوسة من جراء خوفها على زوركين، حيث تسلل الدفء من لمسة يدها إلى أنحاء جسم زوركين وتسارعت مسامات جلده بالتدفق من العرق الساخن وجعلته في حالة القشعريرة الغير مسبوقة لديه، شكرته نوجين كثيراً على المغامرة الخطرة في جلب الدلو من قاع البئر، ثم تابعت عملها بتعبئة الصفائح المتبقية، وبعد ذلك ودعته نوجين التي احتلت عرش قلبه بسعادة وسرور  .
-3-
عاد زوركين إلى بيته عند غروب الشمس مع قطيعه ثم أخذ حماماً ساخناً، وقدمت والدته طعام العشاء له، ثم ذهب وامتد في فراش النوم على مصطبة بيته وهو يراقب النجوم المرصعة في ثوب السماء وتزينه درب التبانة كتاج يلمع على رأس عروس في ليلة زفافها واحس بأن جميع خلايا عقله وقلبه قد استنفرت لحب نوجين التي احاله إلى حالة السكر التام .
تكررت اللقاءات بين زوركين ونوجين من حين إلى آخر وتجسدت علاقة الحب بينهما بكل صدق واخلاص بالخفاء خشيةً من العادات التي كانت تمنع منعاً باتاً بنشوء علاقات عاطفية والخشية ايضاً من التشهير وإلحاق الأذى إلى السمعة الشخصية والعائلية .
وفي احد الايام سمع اهل القرية صدى قرع طبول الفرح واتجهت النساء والأطفال وبعض من رجال القرية نحو مصدر الاهازيج، لقد كان جيرانهم البسوا العروس الثوب الأبيض الناصع، وامتطوها على ظهر حصان بني مزين بألوان زاهية استعداداً للانطلاق إلى قرية مجاورة لقريتها في جو يسوده الزغاريد والأغاني التراثية مع التصفيق الحار، لكن لسوء حظ العروس حضر احد اعمامها الذي صرح بعدم موافقته على زفاف ابنة أخيه، حيث كانت هذه العادة البالية سائدة حينذاك في الوسط الأجتماعي العشائري والعائلي المتخلف، والمصيبة الأخرى التي هي اكثر فضيحةً هي أن تعود العروس عنوةً إلى حضن اسرتها، لذا على العم الممتنع اما ان يأخذها لأحد ابناءه أو يتبرع احد اعمامها الآخرين لحل هذه المشكلة العالقة وسط حشود من أهالي القريتين، حينها كان والد زوركين حاضراً وهو الوحيد الذي تجرأ واخذ برسن الحصان وقاده نحو بيته بالرغم من عدم بلوغ اولاده سن الزواج حلاً للمشكلة في ذلك الزمن .
عند غياب الشمس عاد زوركين كعادته إلى بيته مع قطيعه تفاجئ بوجود عروس فقال له والده بني هذه العروس هي ابنة عمك وانت احق من الغريب بها لذا لا تناقش فهي من نصيبك، عندئذٍ ارضخ زوركين للأمر الواقع ونفذ أوامر والده، ثم تزوج من ابنة عمه رغماً عنه. 
-4-
مرت خمسة وثلاثون عاماً حصلت حالة وفاة في قرية بعيدة عن قرية زوركين، فذهب لفيف من اهل قريته لتقديم واجب العزاء وهناك التقوا بابنة قريتهم نوجين التي كانت حاضرة مراسيم العزاء فسلمت عليهم والسؤال عن احوالهم وحال قريتها التي لم تزرها منذ زمن طويل، فقالت نوجين لأحدهم على الانفراد يدعى ( حمو ) لدي أمانة ثمينة ارجو ان توصلها باليد إلى زوركين لكن يجب أن تكون في غاية السرية يا حمو وعلى الفور ذهبت نوجين إلى بيتها التي كانت تعاني من مرض عضال واحضرت الأمانة وسلمتها إلى حمو مع تبليغ سلامها الحار إلى حبيبها زوركين وشكرته كثيراً .
وصل حمو إلى قريته وعلى الفور ذهب إلى بيت زوركين وجلسا على الانفراد ثم أخرج من جيبه تلك الأمانة وسلمه قائلاً : انها من نوجين ابنة قريتنا التقينا بها اليوم أثناء العزاء في قريتها الثانية، حينها اصاب زوركين بصاعقة المفاجئة على جرح لم يندمل طوال تلك السنين شاكراً حمو وهو يسحب من عميق انفاسه الآهات والحنين إلى نوجين تلك الفتاة الرقيقة والشفافة احبها حباً كبيراً لا تنسى، وعلى الفور فتح الأمانة فوجد فيها منديل أبيض كبياض الثلج ملفوف بقارورة عطر عتيق جداً ملأت جو الغرفة برائحة ذكية ثم تذكر حالاً بأنه المنديل الذي اهدته إلى نوجين أثناء اللقاء بينهما منذ أكثر من ثلاث عقود، لكن المفاجئة الثانية والجميلة وجد بأن نوجين اضافت إلى المنديل بالتطريز قلبين متداخلين فيها حروف من اسمائهما ومزخرفة بالورود الحمراء، حيث كانت نوجين ماهرة في تلك الأعمال اليدوية .
قام زوركين باستنشاق المنديل بكلتا رئتيه وهو يسترجع ذكرياته الطيبة مع حبيبته نوجين مغمض العينين ويقول في قرارة نفسه كم انت مخلصة ايتها الحبيبة الغالية..
حينها سقطت دمعة ألم من عينيه على المنديل المعطر !
– ياترى كم غدرت لعنة العادات البالية بالعاشقين !!؟؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…