بصمة لاجئ في المشفى

مادلين شقير

في مقدمته اللاحقة بعنوان “معزوم إلى فِنجان قهوة” يفتح الشاعر كمال جمال بك أَبواب قضيتنا الإنسانيّة على مصراعيها. وهي هنا قهوة محكومة بالترقب. بنُّها غامق مرٌّ، محمَّص على دهشة التفاصيل. 
 بعد سبع مجموعات بين 1992-2000: فصول لأحلام الفرات- سنابل الرماد- بعد منتصف القلب- فاتحة التكوين- مرثية الفرات العتيق- جسر الضلوع.. وهذه هويَتي- ذئب المنفى وعصافير الثَّلج. 
وهنا في “لاجئ في المشفى” نار غليانها مستعرة بعد توقف عن النشر عشرين عاما بانتظار ما سيفضي إليه النفق. لاذعة وقاسية. تهدأ في قعر الفنجان كي نقرأ فيها مستقبلا” مأمولا”، لكنها لا تبرد.
النصوص مع مجموعتين شعريتين تاليتين:
” نزفت وولدت داخل أروقة المستشفى وخارجها تحت تأْثيرِ نوباتِ جنونٍ هستيريَّة، والشَّخصيَّاتُ والأَحداثُ مطابقةٌ للواقعِ. وما تبقَّى من أَثرِ الحالتينِ العقليَّةِ والنَّفسيَّةِ هو جزءٌ من شهادةٍ في حالاتِ استجوابٍ صادمةٍ لجحيمِ العينينِ والأُذنينِ ببعض الجرائم بحقّ النَّاسِ” (ص7).
شعر؟! بل أعمق من الشعر. زوايا نفس بشرية تستنشق الشمس بين بساطة النصوص وعمقها، وبين مزيج المتخيل فيها وأَثر صدمة الواقع. مناديل مغمسة بالدمع. سلسلة بشخوص حية محمولة على نقالة الطوارئ لتتعافى من سموم الروح. لحظات غارقة بالألم تتشارك الإنساني المتسع، تحت سماء المشفى الضيقة. 
هذه المجموعة لا تشبه برأيي أي شئ قرأته قبلاً. لم أَحفل برنين الكلمات ولا بالقوافي على ندرتها، بقدر ما تلمست الثقيل من المشاعر والمفارقات. جرأة من الشاعر نزيل مشفى الأمراض النفسية والعقلية أن يفتح لنا أبوابها، ويدخلنا إلى حجراته وغرفها، ودهاليزه وممراتها، فنلتقي وجوه من عبروه، ونواجه ما خفي عنا في مرآتنا؛ كلنا في قبو الخوف مرضى مستترون. أَما هو فقد قطع في التعافي شوطا” كافيا” كي نهتدي بشمسه الناضجة:
” بيوار شابٌّ كرديٌّ منْ شمالِ سوريَّة 
عاملٌ في مشفى الأَمراضِ النَّفْسيَّة 
بفاستاروس السُّويديَّة  
بيوار يحبُّ أَن يساعدَ الآخرين 
كالأَكرادِ الطَّيّبين 
لكنَّهُ في كلّ مرَّةٍ أَطلبُ تفاحة
 يحضرُ لي برتقالة
فنضحكُ معاً
ونُطيّرُ ضحكتنا لتمطر  
على أَرضِ سوريَّة “(ص51).
كمال جمال بك ابن مدينة البوكمال في سوريَّة 1964 شاعر وصحفي وعضو اتحاد الكتَّاب السويديين- دبلوم فلسفة من جامعة دمشق.
بضع تواريخ من النزف وصلتنا مغلَّفة ومحفوظة بمخيلة الطير وممزوجة بطين المحبة. بدا أَن ما كتبه هو غوص مستميت في ذات لا تضيع ولا تضيّع ذاتها، وإن التبس عليها الأمر:
” شكراً للمدى 
الذي منحني ضحكةَ الشَّمس 
شكراً للطبيعةِ 
التي وهبتني نعمةَ الكتابةِ ونقمتَها 
شكراً يا أَصدقائي 
في مشفى الأَمراضِ النَّفْسيَّة 
بفاستاروس السُّويديَّة وخارجها
…..
أَتشرَّبُ آخرَ قطرةٍ من شمسِ النَّهار 
كما أَشربُ الأَدوية
وكما يفرغُ صحني بعد كلّ وجبةٍ 
في مشفى الأَمراضِ النَّفْسيَّة 
بفاستاروس السُّويديَّة 
وفي بدايةِ منتصفِ العمر 
أُلَوّحُ لَكُمْ: 
إِلى اللقاء يا أَصدقائي” ص(64-65).
 
كمال جمال بك الذي يشبه قصيدته، هو ذاته في “لاجئ في المشفى” مع علامة فارقة، جرح لم يندمل بعد.
* مادلين شقير- ماجستير تربية خاصة، أخصائية سورية في تقويم النطق والكلام. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبري رسول

 

توطئة للفسحات:

يهندس خالد حسين أشكال الحب في قصيدة: واحدة، في مجموعته رشقة سماء تنادم قلب العابر الصادرة عن دار نوس هاوس بداية 2025. المجموعة عبارة عن أربع فسحات، وهي الفهرسة الهندسية الخاصّة التي تميّزت بها، أربعة أقسام، كلّ فسحة مؤلفة من أربع فسحات صغرى معنونة، وتحت كل عنوان تندرج عدة مقاطع شعرية مرقمة وفق…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “ليالي فرانشكتاين” للروائيّ والفنّان الكرديّ العراقيّ عمر سيّد بترجمة عربية أنجزها المترجم ياسين حسين.

يطلّ عمر سيّد “ليالي فرانكشتاين”، حاملاً معها شحنة سردية نادرة تمزج بين الميثولوجيا السياسية والواقع الجحيمي، بين الحكاية الشعبية والتقنيات المعاصرة، ليقدّم نصاً مكثّفاً عن الجرح الكردي، وعن الوطن بوصفه جثةً تنتظر التمثال المناسب كي تُدفن…

عبد الجابر حبيب

 

يا لغرابةِ الجهات،

في زمنٍ لا يعرفُ السكون،

وعلى حافةِ قدري

ما زالَ ظلّي يرقصُ على أطرافِ أصابعي،

والدروبُ تتشابكُ في ذاكرتي المثقوبة،

ولا أحدَ لمحَ نهايتَها تميلُ إلى قبري،

ولا حتى أنا.

 

على الحافة،

أُمسكُ بزهرٍ لا يذبل،

يتركُ عبيرَه عالقاً في مساماتِ أيّامي،

كأنّه يتسرّبُ من جلدي

ثم يذوبُ فيّ.

 

الجدرانُ تتهامسُ عنّي،

تعدُّ أنفاسي المتعثّرة،

وتتركُ خدوشاً على جلديَ المتهالك،

كأنّ الزمنَ

لا يريدُ أن…

إبراهيم محمود

 

 

1-في التقصّي وجهيّاً

 

هي ذي أمَّة الوجوه

غابة: كل وجه يتصيد سواه

 

هي ذي أمة الوجوه

سماء كل وجه يزاحم غيره

 

هي ذي أمَّة الوجوه

تاريخ مزكَّى بوجه

 

ليس الوجه التقليدي وجهاً

إنه الوجه المصادَر من نوعه

 

كم ردَّدنا: الإنسان هو وجهه

كم صُدِمنا بما رددناه

 

كم قلنا يا لهذا الوجه الحلو

كم أُذِقْنا مرارته

 

قل لي: بأي وجه أنت

أقل لك من أنت؟

 

ما نراه وجهاً

ترجمان استخفافنا بالمرئي

 

أن…