يوم النوروز الكُردي سطورٌ من إسطورة

أحمد عبد القادر محمود 

التاريخ المدوّن والمقروء ، سطَّر لنا روايات وقصص وحكايا (محتطبة) من هنا وهناك لشعوب الحضارات القديمة التي  أَفلت واقعياً كحضارات  قائمة بذاتها وتحول ما بقي منها لأمم وشعوب منتشرة على البقع الجغرافية  ضمن أُطر أخرى تُعرف اليوم كمكونات مسوّرة وبمسميات سياسية  حديثة قديمة  من قبيل : دولة  ، مملكة  ‘ إمارة ،  إتحادات … إلخ .
 تلك المرويات صمدت وبقوة وباتت  كمسلمات في ذاكرة العقل الجمعي اللاواعي للشعوب   ، لا بل أستخدمت كقواعد لبناءٍ توسعيٍّ أيديولوجي ، وعلاوة  باتت تُشكل المخزون الأرثي  الثقافي الذي  يشرعن الأفعال والممارسات المجتمعية من جهة والعبادات والطقوس اليومية سواء الدينية السماوية  منها او  الوضعية
مما دعا  أصحاب الفكر و المعرفة  للأهتمام بدراسة هذه المرويات ووضعها تحت مجاهر البحث والتقصي لسبر أغوارها  ، بداية من السير جيمس فريزر 1890م مؤلف كتاب الغصن الذهبي الذي جمع فيه الأساطير الإنسانية ، الكتاب الذي ساهم في فتح بوابةٍ جديدة  من أبواب العلم عُرفت بالميثيولوجيا (علم الأساطير ) ، وتبعه سيغموند فرويد  1899م الذي أستخدم الأساطير لإثبات  نظريته في التحليل السوسيولوجي ، ومن ثم العالم مالينو فسكي 1913م الذي حصل على الدكتورا في الأنثروبولوجيا حول الأسرة في الشعوب الأصيلة ، وبعده العالم جوستاف كارل يونغ 1930م صاحب الكتاب الأحمر حول الأساطير وعلم النفس ، وتبعهم مرسيا إلياد ورولان باروت وكلود شتراوس وجيلبر دوران الذي أسس شبكة متخصصة لمراكزالبحث في الأنتوبولوجية وعلم الإجتماع .
إذاً نحن أمام علمٍ متخصص  ذو نهج  له  أنواع و  أسس وقواعد   ، من هذه الأنواع على سبيل الحصر الأسطورة الرمزية وهي مدخلنا على ماهية  الأسطورة (الحكاية ) التي تروي قصة عيد النوروز أستنادا  لمفهوم  المنهج الرمزي ،
بداية وقبل الشروع في تناول الحكاية النوروزية ، لا بد من الإشارة إلى أن هناك عدد من الشعوب والقوميات  يحتفلون  بهذا اليوم أيضا أي ليس الأمر مقتصر على الكُرد فقط ، وكلٌ حسب ما يعتقده من مرويات تاريخية شكّلت وعيه الثقافي ، ولكن جميع هذه المرويات باختلاف مضامينها السردية  تشترك حول فكرتي إنتصار النور على الظلام أو الخير على الشر ،و دورة الحياة الجديدة   ، كتلك الشعوب المنتمية للعرق الأري التي عاشت جنباً إلى جنب في جغرافية متجاورة ومتداخلة .
الحكاية المجازية  النوروزية الكردية (كاوا الحداد والطاغية أزدهاك أو الضحاك ) أسطورية شأنها شأن الحكايات الأسطورية الأخرى ، وتحتمل ما تحتمله الأسطورة التقليدية  من زيف أو أختلاق أو تفسير لظاهرة  ، أو رفضٍ أو قبول .
هكذا يرى المنهج الرمزي القائل : الأسطورة قصة رمزية تعبر عن فلسفة كامل للعصر الذي نشأة فيه لذا ولزاما يجب أن دراسة العصر ذاته لفك رموز الأسطورة .
وبما أن هذه القصة غير محددة  زمانياً ومكانياً ، بمعنى أن أبطالها الأساسيين ليسو أشخاص  حقيقين ، إذا ما أستثنينا أزدهاك أو أستياك جد كورش الفارسي الأخميني 550 ق . م  ، المذكور في بعض  روايات المؤرخين كالدينوري والطبري والفردوسي ومسكوي والمسعودي والثعالبي والتي هي أيضا محل شك ومختلف فيه ، فهي رواية أسطورية خاضعة لرؤية المنهج العقلي للأسطورة .
الكُرد تبنوا الرواية كما هي  كحكاية شعبية قومية  غير مقدسة تخلو من ذكر الألهة و لما تحمل من رموز وإسقاطات عايشوها ، فأنتصار كاوا (البطل الشعبي )على الضحاك هو أنتصار للشعب المضطهد المستعبد على الحاكم الطاغية المستبد و طغمته الفاسدة ، وشعلة النار أداة إعلان النصر ،والأنتقال من ظلام الاستبداد إلى نور الحرية والخلاص ،  لذا أصبحت رمز وأيقونة الثورة ، ويوم الحدث( الخلاص )  هو اليوم الجديد (النوروز ) .
لترسيخ أي حدث أو ظاهرة أوفعالية لا بد أن تقترن بحكاية داعمة تسبقها ، هذا ما جرى عليه العرف التاريخي التدويني  القديم والأوسط والحديث ، والأمثلة كثيرة جدا ، من  خلق أدم إلى يومنا هذا ، لست بوارد ذكرها ، إنما سأورد بعض الأحداث التي أُستند إليها في جعل يوم حدوثها يوماً لبداية التاريخ الجديد  (التقويم السنوي ) لهذه الأمة أوتلك ،  والذي بات يعرف برأس السنة .
على سبيل المثال التقويم الروماني يعزى للأمبراطور نوفا الروماني الذي اتخذ يوم تأسيس مدينة روما في (753) ق .م هو يوم رأس السنة الرومانية .
التقويم الميلادي : أبتكره الراهب ديونيسيوس اكسيجونوس في منتصف القرن السادس (532) م بجعل يوم ميلاد المسيح هو بداية السنة الميلادية .
التقويم الهجري : وضعه عمر بن الخطاب متخذا يوم هجرة الرسول محمد من مكة إلى المدينة .
التقويم الكردي : أعتبر الكُرد يوم سقوط نينوى في 21 أذار عام (612) ق. م على يد الميديين أسلاف الكُرد  هو يوم رأس السنة الكردية .
وهنا بيت القصيد ، التقويم الكُردي أو رأس السنة الكردية هو يوم عيد النوروز المستند لحدث تاريخي حقيقي ومتواتر وما قصة كاوا الحداد إلا قصة رمزية داعمة لهذا الحدث التاريخي الحقيقي كما أشرنا ، وهي متساوقة ومتناغمة مع أفعال الأسلاف ، شأنهم شأن الأقوام الأخرى التي كانت تدافع عن خلاصها من إحتلال أقوام أخرى او ضد حكامٍ طغاة مستبدين ،
يوم النوروز عيدٌ قومي للكرد ، مسطورٌ في ذاكرته الجمعية الشعبية  ، منقوش على صفحات موروثه الثقافي الذهني و بالمعنى الأوسع والأشمل  لمفردة الثقافة  ، تلك الأفعال التي كررها الأسلاف ألاف المرات .
 نوروز
ربيعٌ كُردي قبل الميلاد
أوجد تاريخا للحياة
أيقونته مشعلٌ من نار
حرر أُمَّة من الأنكسار
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…