محمد صابر عبيد
يقدّم الشاعر لقمان محمود مجموعته الشعريّة الجديدة الموسومة “الصمت الذي لا يتوقّف عن الكلام” ذات رؤية ثقافيّة في إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة حول شاعر ينتمي إلى الأقليّات في مجتمع الأكثريّة، فثّمة كثير من الشعراء الكرد والآشوريين والتركمان وغيرهم في مجتمعات عربيّة يُصنَفون ثقافيّاً بـ”الأقليّات”، قياساً بالأكثريّة العربيّة التي تهيمن لغتها عليهم فلا يجدون منفذاً ممكناً للتعبير عن هُويّتهم الإبداعيّة بلغتهم الأم لأنّها محدودة الانتشار، فيذهبون إلى لغة الأكثريّة طلباً للتداول والتواصل والشهرة فيتعرّضون للوقوع في جُبّ هذه الإشكاليّة وتتلوّن نصوصهم بألوانها الملتبسة.
تطرح مقدّمة لقمان هذه الإشكاليّة على نحو ما معزّزةً بأعلى ما يمكن من فداحة الألم اللغويّ الذي لا يمكن عزله عن الضرورة الإبداعيّة بسهولة:
“الشعر أداة سحرية لتوسيع العالم عبر رفع سقف المخيلة. بهذا المعنى، كلّما رأيتُ صياداً يتربّص بالسماء عرفتُ أنّ هناك أغنية ستسقط. وكلما رأيتُ طائرة تتربّص بالأرض أيقنتُ أنّ هناك روحاً ستغيب. في عالم كهذا كتبتُ ديواني الأول “أفراح حزينة” عام 1990، باللغة العربية. فالكرديّ المحروم من لغته الأم يجد نفسه في لغة غريبة (فرضت عليه) لا يعرف منها والداه سوى الفاتحة والدعاء، فيصرّ تحت ضغط التهميش والحرمان والضرورة أن يتعلّم هذه اللغة الطارئة على تفكيره وأحاسيسه ووعيه بكلّ السبل. هكذا تطرأ لغة أخرى مسموح بها إلى جانب لغة الأم الممنوعة. وبما أنّ الإبداع -على الأغلب- يتعلق بالوعي الجماليّ. نادراً ما يبتعد هذا الوعي عن الوعي الإنسانيّ.
لم أفكر حتى الآن، باللغتين “الكردية” و”العربية” من ناحية التفضيل؟ أكتب بهما كأيّ “سبّاح” لا يستطيع الاستغناء عن إحدى يديه. ما أريده من القصيدة الكردية هو ما أريده من الكتابة بشكل عام.. أي أنْ تكون القصيدة وطناً وبنفس الوقت منفى. أنْ تكون القصيدة سفراً وبنفس الوقت عزلة. أنْ تكون القصيدة كردية وبنفس الوقت عالمية الإبداع.”
تحيل هذه الرؤية القاسية على معادلة شديدة القهر والاضطهاد والإكراه في خطاب أشبه بالبيان الذي يكشف عن عمق هذه الإشكاليّة وشراستها، وبما أنّ الشاعر ينتمي إلى الأقليّة الكرديّة في بلد الأكثريّة العربيّة فإنّ لغته المحاصَرَة تفرض عليه تعلّم لغة الأكثريّة “فالكرديّ المحروم من لغته الأم يجد نفسه في لغة غريبة (فرضت عليه) لا يعرف منها والداه سوى الفاتحة والدعاء، فيصرّ تحت ضغط التهميش والحرمان والضرورة أن يتعلّم هذه اللغة الطارئة على تفكيره وأحاسيسه ووعيه بكلّ السبل. هكذا تطرأ لغة أخرى مسموح بها إلى جانب لغة الأم الممنوعة”، لا بل تهيمن عليه هذه اللغة الغريبة وتضطرّه حين يكون شاعراً إلى الكتابة بها؛ وإعادة إنتاج أحاسيسه وعواطفه القوميّة على النحو الذي يناسب اللغة الأخرى، فيذهب ضحية شيزوفرينيا إبداعيّة ليس من السهولة السيطرة عليها وتسييرها على سكّة هادئة وطبيعيّة.
تتكشّف الأشياء أمام شاعر الأقليّة عن هويّة ملتبسة تكتسي بالعتمة والغموض والشتات والتشظيّ، فلا مستقبل للمطر وهو لا يجد ما يعرفه من عناصر الطبيعة الأصيلة كي يتفاهم معها على النحو المطلوب، ففي قصيدة عنوانها “المطر” تتأنسن شخصيّة المطر وتتحوّل إلى حكواتيّ استباقيّ يحرج الأمكنة الضائعة في مخيال القصيدة:
“عندما يرغب المطر أن يحكي عن المستقبل
قد يُحرج المكان الذي كان في يوم من الأيام غابة
قد يُحرج المكان الذي كان في يوم من الأيام نهراً
وقد يُحرج كلّ شيء عاش على الأرض.”
تتحوّل صورة “المطر” إلى علامة مؤنسنة تحكي قصّة المستقبل على نحو يجعل العلامة “المطر” تتجاوز غربتها وضياعها ومرجعيّتها، ولا سيّما وهي تعانق المكان الفسيح “الأرض” الذي ينفتح بطاقته كاملةً لاستقبال هذا الضيف المُرحَّب به، حين يذوب في باطن الأرض ويحرج بتضحياته الجسيمة مفردات الحياة على الأرض كلّها، وفي مقدّمة هذه الأماكن “الغابة” التي غادرت أشجارها وخضرتها وظلالها فصار المطر لا يعني شيئاً للمكان، و”النهر” وقد غادر ماءه وجريانه وخريره وعطاءه فانعدم معنى المطر فيه، كي يصبح المطر غريباً غيرَ مفهومٍ ولا يعني شيئاً للأرض في ظلّ حالة الحرج الضاغطة على صور الغياب في الغابة الغائبة، والنهر الغائب، وكلّ شيء غاب عن الأرض.
تشتغل علامة “المطر” هنا بوصفها منفى مائيّاً معلّقاً في الفضاء بلا وطن ثابت، فالأرض بكلّ ما عليها تتعرّض في لحظة ما لمعانقة قطرات المطر التي سرعان ما تنتحر بمجرّد سقوطها، وتعمل على إحراج هذه الأماكن عندما تتعرّض للفناء والمحو في سبيل ما تقدّمه من فوائد للأشياء الحاضرة على سطح الأرض، فهل الأرض وما عليها هي الأكثريّة والمطر هو الأقليّة في إشكاليّة كونيّة طبيعيّة دائمة؟ وهل تبقى علامة “المطر” ضحيّة من ضحايا الأرض تحرج الأمكنة حين تغادرها مفرداتُ الطبيعة لأنّها تفقد المعنى وتبدّد الدلالة؟
يتحرّك الشعر في فضاء لقمان محمود الشعريّ انطلاقاً من مرجعيّة مكانيّة تحوّلت إلى علامة ضاغطة نحو تعميق إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة، ويذهب الإحساس بلا جدوى الأشياء نحو ملاذ وحيد يتعلّق بمعنى الطفولة قدر ارتباطها بالمرجع المكانيّ، على النحو الذي يسهم في إنتاج فكرة “الموت” بزخمها الشعريّ الهائل لدى شعراء الأقليّات، ويتجلّى ذلك كثيراً في هذا الصمت الثرثار الذي يحاول الشاعرُ خزنَه في طيّات كلامه الشعريّ:
“أتنقَّل بطفولتي بين قبور عامودا
كمن يبحث عن حياته في ظلّ قبر
أعدّ خطواتي وأمشي
أمشي بين عيون الموتى
إذ لا يقتلني هنا
سوى الصوت المبحوح تحت التراب
لا يقتلني سوى جرح أبي المفتوح في صدر الألم
نَمْ يا أبي. نَمْ
لا جديد في كردستان:
فقط أحجارٌ قديمة لبيتٍ جديد.”
يكتظّ هذا المشهد اكتظاظاً حكائيّاً حاشداً بصورة شعريّة شديدة الكثافة والسيميائيّة، تجمع الشخصيّة والزمن والمكان والحدث في قارورة سرديّة واحدة بلا فراغات تعبيريّة أو تشكيليّة، فالراوي الشعريّ الذاتيّ بشخصيّته العابرة للأزمنة والأمكنة يختزل حياة المرجع العلاميّ المكانيّ “كردستان” في بؤرة حاسمة “لا جديد في كردستان:/فقط أحجارٌ قديمة لبيتٍ جديد.”، إذ تتنافس بلاغة الطباق “أحجار قديمة/بيت جديد” بتنازع طرفَي الطباق المتناقضَين “أحجار/بيت” و”قديمة/جديد” كي تجيب على فضاء النفي “لا جديد” إمعاناً في محو المعنى، وإيجاد مسوّغ دلاليّ لصورة الموت التي تهيمن على المشهد وتستغل إمكاناته بقوّة.
تبدأ هذه الصورة بـ”أتنقَّل بطفولتي بين قبور عامودا/كمن يبحث عن حياته في ظلّ قبر” بداية يائسة بين معاني الموت وتفاصيله، بما يجعل الراوي الذاتيّ الشعريّ يغذّ السير نحو مزيد من استلهام طاقة الموت للفوز بالفكرة المطلوبة “أعدّ خطواتي وأمشي/أمشي بين عيون الموتى/إذ لا يقتلني هنا/سوى الصوت المبحوح تحت التراب”، وتتضاعف هذه الدرجة من القسوة في جلد الذات حين تدخل صورة الأب على خطّ المحنة “لا يقتلني سوى جرح أبي المفتوح في صدر الألم/نَمْ يا أبي. نَمْ”، فعبارة “جرح أبي المفتوح” تعكس زمنيّة المعاناة التي لا تتوقّف لفرط اكتناز شخصيّة “الأب” بالدلالة المرجعيّة الضاغطة، ولفرط انتشار المعنى الشعريّ لمفردة “جرح” وهي تعني مفتاحاً سيميائيّاً من مفاتيح الدم والموت، ولا سيّما حين يسهم النعت “المفتوح” في رفع المعنى إلى أعلى درجة من التوكيد والعمق والمأساة، كي يكون النداءُ في نهاية القفلة الشعرية “نَمْ يا أبي. نَمْ” دعوةً لليأس العميم الذي لا أمل يكتنفه في هذه الحال.
تفسّر قصيدة أخرى للشاعر عنوانها “قلب الماء” ثنائيّة الموت والحياة التي تقوم عليها إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة في معادلة “الماء والعطش” ذات التمثيل البلاغيّ الطباقيّ:
“مرَّ الكثير من المياه
على العطش الكرديّ
لكن بعثرتها الريح
في كلّ الجهات.”
يقدّم هذا المقطع الشعريّ تشكيلاً دراميّاً يتضمّن توكيد صورة الضياع داخل مربّع سيميائيّ عنيف يكتنف فضاء المعنى، ضلعه الأوّل هو “الكثير من المياه” حيث يشعّ بدلالة الوفرة والخير والعطاء والأمل والحياة الرغيدة، وضلعه الثاني “العطش الكرديّ” وهو يتطلّع نحو الضلع الأوّل ويفترض منطقياً القضاء على حالة العطش بهذه الوفرة المائيّة المتاحة، أمّا الضلع الثالث فيتمثّل في جملة “بعثرتها الريح” إذ تغيب الوفرة المائيّة التي كانت متاحة في فضاء الضلع الأوّل، ويأتي الضلع الرابع كي يكمل صورةَ هذا الضياع وتشتّتَه فيما لا يمكن إعادته إلى ما كان عليه “في كلّ الجهات”، على النحو الذي يبقي “العطش الكرديّ” في دائرته المغلقة من دون تغيير بسبب تحطّم المعنى الشعريّ في الأضلاع الثلاثة الأخرى، بما لا يستجيب لهذا العطش وكأنّه غير موجود أصلاً في مشهد الحكاية ذات المربّع السيميائيّ القاتم.
تستمرّ دراما العطش في قصيدة “السواد” ليصوّر الشاعر في مقطعها الأوّل حجم المفارقة السيميائيّة المدوّية لهذه الشخصيّة التي تنفق جلّ حياتها في الحفر داخل الثلج، وهو العلامة التي يكتنز في أعماقها الماء، لكنّ حياتها تنتهي إلى الموت عطشاً في ظلّ صورة تجسّد أعلى درجات الحرمان ضمن نسق مُضمَر لنموذج حياة الأقليّة:
“طوال الأعوام الأخيرة
لم يفعل شيئاً
سوى الحفر في الثلج
ظلّ يحفر ويحفر
إلى أن مات
من العطش.”
في حين تذهب قصيدة “أغنية “نوافو” الأخيرة” -في مفصل مركزيّ من مفاصلها- نحو الآخر الجدليّ المضادّ “الأكثريّة” كي يهجو افتخاره بالإرث الممتدّ في بطون التاريخ:
“من يفتخر
بأنه يملك الجذور
سيبقى دائماً
تحت التراب.”
إذ لا ملاذَ حقيقيّاً سوى الراهن الذي يعيش فوق التراب بأقصى درجات الحسيّة التي تشتغل فيها الحواس وتفعل وتنتِج، ولا فائدة من الركون إلى معطف الأجداد المندثر مع أجسادهم التي أكلها التراب وحوّلها إلى محض حكاية للذكرى، بما يجعل تكافؤ الفرض قائماً على الكفاءة والاجتهاد والنبوغ والتفوّق؛ على النحو الذي يدحض فكرة التفوّق الأيديولوجيّ للأكثريّة على الأقليّة.
يبقى الشعر هو الملاذ الأخير للأقليّة في فضاء الحياة الذي بوسعه أن يعيد الأشياء إلى طبيعتها خارج عنف إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة، فهو الملاذ الأصيل الذي يَجبُّ الملاذات الأُخر ويجعل من اللغة شكلاً فعليّاً من أشكال المصير:
“الشعر،
يُعيد البصر
إلى الكلمات العمياء.”
تتجلّى هذه الصورة تجلّياً سيميائيّاً رمزيّاً يجعل من الشعر صانعاً لجدوى اللغة ومصيرها الفاعل في الحياة، فمن دونه تبقى اللغة عاجزة عن رؤية ما ينبغي أن تراه في محيطها الثقافيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ والحضاريّ، بكلّ ما تتمخّض عنه حساسيّة الصورة البلاغيّة الطباقيّة “البصر/الكلمات العمياء” من معطيات، وهي تخوض في أكثر من نسق دلاليّ لا يبتعد في طبقة من طبقاته عن إشكاليّة الأكثريّة والأقليّة، كي تبقى القصيدةُ منفىً لشاعر الأقليّة الذي يجرّب كلّ ما هو متاح أمامه لتوكيد ذاته المهدّدة بالضياع فلا يستطيع.
(*) الصمت الذي لا يتوقّف عن الكلام، لقمان محمود، دار آيبك للطباعة والنشر، السويد، ط1، 2022.