فضاء أينشتاين (بين القصة والخاطرة)

إبراهيم أمين مؤمن/ مصر

مقدمة:  لعل هذه القصة أنموذج جديد من نماذج السرد؛ فهي قصة متكاملة أركانها لكن أحداثها سُردتْ بأسلوب الخواطر.
   ***
  فضاء أينشتاين
  إبراهيم أمين مؤمن
القصة
سرت بكِ على الدرب، ملك بصولجان، واثق الخطوة، تخشع لي الكائنات.
توجتك ملكة على عرشي، ألبستك الإستبرق والسندس، جعلت راحتي يدي بساطا لقدميك، وقدمي قبلة اختيال خطواتك، فلا في جب سحيق تهوين، ولا في بيداء الوحوش تتوهين.
أضيء لك دربك بمشكاة تُضاء من أجنحة الملائكة، فسيفساء نورانية تتبهرج، يخشع نوره عبدا تقيا بين لهيب عينيك النجمية واختيال خطواتك الطاووسية، درب تختال فيه الأزاهير وتُروى من أنهار سلسبيل، تصدح البلابل على خرير مائه، ويتردد على سمعك كتراتيل داوود.
استرققتِ الكائنات بوحي من دساتير حبي.
وأسكنتك قصرا، دارت الكواكب في فلكه بعد أن عقت شمسها بإعلان يوم الاستقلال.
  ***
عفت الفردوسَ على دقات طبول ومزامير محفل شيطاني، ليخرجوا سمفونية باسم: لا أحبكَ، الرحيل.
فتحتْ كتابا لتملي عليّ طلاسم شيطانية.
تتأرجح على حبل البهلوان لتعبر جسر الفراق. 
أسمعتني موسيقىً شاحبةً متهدلةً، كصيحة زلزلتني، فغرقت في دموع حسرتي، فهل من يد تمتد لغريق؟
شاغبتني بسيف شعشعني، فكيف أرد سطعه قبل أن يفجر نور عيني؟
زفير أنفاسها يحرقني، فأنى لي من ماء يطفئ نارا شبت في هيكل قلبي؟
  ***
سارت تترنح، فأمسكتْ بعصا الرحيل واتكأت، تكبو وتنهزم.
قلت: لم تختم أكتافنا بوشم الهجر واليباب؟!  ألم يؤنسك حبي؟
ولِمَ الرحيل وفيه اتكاء وانهزام ؟! ألم تسترقي الكائنات؟
ولم الزهد؟ لمْ ينضب زيتي ولم ينطفئ مصباحي، ولم يسقط صولجاني.
أتريدين أن نُحدّقا معاً في وجه الفناء؟!
وننظر في أناملنا التي تلمستْ عمياء في بصمة من الجحيم؟!
أتظنين أن هناك ماءً أعذب من مائي ؟!
ودربًا أخصب من دربي؟!
ونورًا أسطع من نوري؟!
وصرحًا أعلى من صرحي؟!
تالله لن تجدي غدًا إلا أن تقضمي مخالبكِ، وتأكلي صغارك، وتكون وثبتك وثبة العجائز، وتعيشين في لُجج من ظلمات بعضها فوق بعض.
فصرعتني، فنهضتُ وجاوزتها، وقفتُ تلقائها وصرختُ برماد صوتي المحترق: انزعي عن جسدك ثوب خطتك العمياء، لا ترحلي، سأحترق،  سأتمزق، سأنهدم.
ونكست رأسي تحت قدميها، وسفحت الدمع على موطئها، وقلت: سترحل الملائكة على مطايا حمام قصركِ، سوف تهجر الطيور أوكارها، وتجف الأنهار، وتتصلب الحياة، وتخبو المشاعل، ويهوى القصر فوق كل الأبرياء.
وتذهب كل أحلامي سدى.
فسخرت مني سخر العدا، وأطاحت برأسي ووطئتها حتى جاوزت باب الرحيل.
  ***
قلتُ قد ترجع، ولزمت فناء القصر.
بين الجنة والنار ينتظر جسدي طرح يديها.
تأخذني الثواني وتجرني على نسيج من جمر نضيج من صراط الانتظار، وبريق دمي يلطخ الزهور التي تساءلت: بأي جريرة أعاقب؟
ولاذ كل حي من ضجيج صراخ أعظمي.
تمنيتُ: يا ليت الرياح تحمل أنفاس رجائي إليها.
يا ليتها تحمل النار التي شبت في جسدي إليها.
  ***
لم تعود.
انكمش الكون تحت قدمي في ثقب كسم الخياط.
التهم كل ما حولي، ولم تسمع أذني سوى لفح نار تأكل بعضها بعضا. 
وتحول كل شيء إلى أطلال.
ولم أجد سوى مركبة الأحزان، أقلتني نحو أفق حدثه، ووقعت تحت جاذبية الثقب.
تباطأ الزمن، فهرمت قبل أن ألقي حتفي فيه، ثوان مرت، فلما حملت على أكتاف أينشتاين أخذت من عمري سنين. 
شابت عواطفي، فهرمت وتساقط شعري وانحنى ظهري وتدلى جفني وترهل جلدي وضعفت عظامي أمام ثقب تكون من نيران الرحيل.
وذهب العمر هباء، وما كان وعدها إلا شبحا، ولم أدرك نفسي إلا عندما خُبّرتُ بأني في الجحيم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…

 

محمد إدريس *

 

في ذلك المشهد الإماراتي الباذخ، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، يبرز اسم إبراهيم جمعة كأنه موجة قادمة من عمق البحر، أو وترٌ قديم ما زال يلمع في ذاكرة الأغنية الخليجية. ليس مجرد ملحن أو باحث في التراث، بل حالة فنية تفيض حضورًا، وتمنح الفن المحلي روحه المتجددة؛ جذورٌ تمتد في التراب، وأغصانٌ…

 

شيرين الحسن

كانت الأيام تتسرب كحبات الرمل من بين أصابع الزمن، ولكن لحظة الغروب كانت بالنسبة لهما نقطة ثبات، مرسى ترسو فيه كل الأفكار المتعبة. لم يكن لقاؤهما مجرد موعد عادي، بل كان طقسًا مقدسًا يُقام كل مساء على شرفة مقهى صغير يطل على الأفق.

في كل مرة، كانا يجدان مقعديهما المعتادين، مقعدين يحملان آثار…