سلمى الخضراء الجيوسي أكبر من درعٍ ومن طباعة ديوان

فراس حج محمد| فلسطين
أتذكر المرة الأولى التي تعرفت فيها إلى اسم الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، وذلك عندما وجهني الدكتور عادل الأسطة وأنا طالب في الجامعة لشراء كتابها الذي كان قد صدر مؤخرا في ذلك الحين: “موسوعة الأدب الفلسطيني الحديث” بجزأيه.
كان الجزء الأول منه تحديدا الخاص بالشعر هو مرجع أصيل وضروري من مراجعي في كتابة بحث الماجستير: “السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم بين عامي 1948-1993”. أفادني الكتاب كثيرا، سواء في مقدمته التي تضيء على الأدب الفلسطيني وظواهره، أم في ترجمتها للشعراء الذين تناولت أشعارهم الساخرة. وكان ما يزعجني في ترتيب الأسماء أنه لم يكن يتبع منهجية واضحة، فعندما كنت أحتاج الكتاب، كان لا بد لي من قراءة الفهرس اسماً فاسماً قبل أن أصل لما أريد.
ولهذا الكتاب حكاية طريفة عندما اشتريته من مكتبة الرسالة في نابلس. كان للكتاب طبعتان، واحدة أصلية وأخرى مصورة غير شرعية، أرخص من الأولى بفارق له دلالة اقتصادية عندي في ذلك الوقت، وأظن أن بين النسختين الشرعية والمقلّدة فروقا في الغلاف والطباعة ذاتها، لذلك عندما اشتريت الكتاب دَيْناً، وقفلت عائدا إلى البيت اكتشفت أن الجزء الثاني معطوب، فأعدته في اليوم التالي، ولم يكن في المكتبة نسخة بديلة غير شرعية، فمكثت طويلا أنتظر- ربما- شهرين أو ثلاثة، حتى كدت أنسى الأمر، لأنني باختصار لا حاجة لي حينها بالجزء الثاني المخصص للنثر، ولم أتعمد الذهاب إلى المكتبة للسؤال عن توفر الجزء الثاني، لأن ذلك سيضطرني لأن أدفع ما عليّ من دينٍ، ولذلك كنت أتمنى أن يطول الأمر أكثر، ريثما يتوفر معي ثمن الكتاب. 
وفي أحد الأيام يلتقي بي صدفة صاحب المكتبة في السوق، ويخبرني أنه قد توفر الجزء الثاني فمرّ من أجل أن تأخذه، ولم يقل لي شيئا عن الديْن، لكنني اعتبرت ذلك مطالبة غير مباشرة، لم أماطل كثيرا، تدبرت أمري وذهبت لاستلام نسختي، وهكذا صار الكتاب بجزأيه عندي وفي مكتبتي.
بعد دراسة الماجستير أخذت أعود إلى الكتاب بجزأيه، كلما كتبت عن كاتب فلسطيني، سواء أكان شاعرا أم ساردا، وظل رفيق رحلتي البحثية حتى الآن، فكان أحد مراجع سلسلة كتب “ملامح من السرد المعاصر” في التعريف بالكتاب ممن ترجمت لهم الجيوسي في كتابها، بل وفي كل كتبي النقدية لأنني كنت حريصا في مادة أكتبها عن كاتب فلسطيني أن أعرّف به في الهامش، وكان هذا الكتاب ضالتي.
وأفدت كثيرا من الكتاب في عدة مواضع وموضوعات، وأنا أعد لكتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”، فحضر في الفصل الثالث المخصص لشعر النساء، عندما أجريت إحصاء لعدد الشاعرات في الموسوعة ومقارنتها بعدد الشعراء، إذ كنت أبحث في المجاميع الشعرية القديمة والحديثة عن نسبة حضور الشاعرات في تلك المجموعات، واستعنت بكتب كثيرة من أجل ذلك، وأوردت ذلك مفصّلا في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”.
كما أن الدكتورة الجيوسي نفسها قد حضرت في الفصل الثاني من هذا الكتاب المخصص لدراسة “ظواهر سلبية في مسيرة الشعراء”، حضرت كمثال على الشعراء الذين لم يتابعوا كتابة الشعر، وكان لها حتى ذلك التاريخ ديوان شعري واحد هو “العودة إلى النبع الحالم” قبل أن يصدر لها اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين ديواناً ثانياً، ورافق الإعلان عن هذا الديوان “صفونا مع الدهر” لقاء مع الشاعرة، مصورا من بيتها في عمّان منشوراً على موقع “اليوتيوب”. 
بدا الاتحاد وكأنه أعاد لها مفقوداً وهو يجمع لها هذه القصائد وينشرها، وتشعر وأنت تسمع تلك الكلمات بذلك الكم الهائل من “الدعاية” الفجة للاتحاد وعمله البطوليّ، فقال مخاطباً الدكتورة وهو يقدم درعا للشاعرة: “هذا هدية اتحاد الكتاب إلك، لأنك صفيت مع الدهر، هاي الدهر وفلسطين صفوا معك. هذا وفاء فلسطين”. فماذا قدّم الاتحاد للشاعرة مقابل ما قدمته من عمل جبار في عملها الموسوعي وترجمتها للأدب العربي والفلسطيني ضمن مشروع بروتا العظيم؟ قدموا لها درعا خشبيا، وأصدروا لها ديواناً. لاحظوا حجم الوفاء لشاعرة تركت الشعر من أجل ما هو أهم لخدمة القضية الفلسطينية، وتعريف العالم بالثقافة العربية والفلسطينية. درع وطباعة ديوان هما كل وفاء فلسطين لشاعرة ومترجمة بحجم الوطن العربي، وليس بحجم قادة مأسورين ومحشورين في عنق زجاجة يلعب بهم الاحتلال، وهم يلعبون بالاتحادات كلها، وليس اتحاد الكتاب فقط.
إن الشاعرة- في الواقع- أكبر من اتحادهم، ذلك الاتحاد- عبر مسيرته الطويلة- لم يقدم للأدباء الفلسطينيين والثقافة الفلسطينية الحقة بتنوعها ما يجب عليه أن يقدم، إنما “عصابة” تتحكم بها الأهواء والمصالح الشخصية والامتيازات الخاصة، وهو أبعد ما يكون عن خدمة الثقافة الفلسطينية والمثقفين الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، والشاعرة أكبر من جوائزهم، فالمبدعون (الأيقونات) لا يتعامل معهم بمنطق التعامل مع الناشئين من الكتاب الذين يحتاجون الجوائز لدفعهم نحو المستقبل، فلا معنى لمنح الشاعرة جائزة وقد تجاوزت التسعين عاماً، إنها هي من يمنح الآخرين جوائز، لأنها تمثل تاريخ أمة كاملة بثقافتها الشاملة، لا ثقافة الشعب الفلسطيني وحده. إن في ذلك المنح تقزيماً للتاريخ وحصره في عناوين باهتة تضر ولا تنفع. فهي قامة شامخة قبل كل هذا وبعده، وبصماتها الشعرية والنقدية والبحثية ومترجماتها شواهد خالدة على عظمة المرأة الفلسطينية المبدعة التي عملت ما عجزت عن مؤسسات ووزارات عن فعله، فهي المرأة التي فوق الرجال فعلاً، إن حق لي أن استعير تلك المقولة التاريخية لتكون أكثر مناسبة للشاعرة الباقية فينا بما قدمته من جليل الأفعال وعظيم الأعمال.
رحم الله الشاعرة والمترجمة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، هذا الاسم الثلاثي الذي لا يصلح إلا أن يظل كاملا هكذا، فقد سمعته لأول مرة بهذه الصيغة الكاملة، ولا يطيب لي إلا أن يظل يتردد في كتاباتي بهذا التشكيل الكامل بإيقاعه المميز ليدل على أيقونة أدبية ثقافية لن يجود الزمان بمثلها؛ فلا ينفع اختصاره، بل إن اختصاره يسبب خللاً كبيراً في الإيقاع لا تعوّضه آلاف الألقاب التي تنثر في الخطابات الجوفاء، عديمة القيمة، رديئة الأداء، لأنها ستظل سطحية وهي تطاول القيمة والقامة الشامخة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…