مصطفى رشيد
ترجمها من اللغة الكردية حيدرعمر
رحل عنا الشخصية المعروفة في منطقة عفرين / جبل الكرد العميد سيدو ديكو في 25. 02. 2023 إلى رحمة الله تعالى دون وداع. أرجو الله أن يتغمَّده بواسع رحمته، ويقبله في جنته.
من هو المرحوم سيدو ديكو؟
هو سيدو بن سليمان بن سيدو ديكو، ينتمي إلى قرية قاسم المتكئة على أحد جبال منطقة عفرين. في هذه القرية رأت عيناه النور في 15. 06. 1938. أتمَّ تعليمه الابتدائي في مدرسة كان عليه أن يقطع المسافة إليها سيراً على الأقدام ساعتين لبُعدها عن قريته، ثم انتقل إلى مدينة حلب لمتابعة تعليمه الإعدادي والثانوي في الكلية الإسلامية.
حين التحاقة بالخدمة العسكرية، التحق بقسم الشرطة المدنية، وكان يترقّى في رتبته، فتزداد النجوم على كتفيه، إلى أن كانت سنة 1960، أوفِد إلى مصر، ملتحقاً بكلية الشرطة. وترقّى بعد ذلك في التراتب العسكري حتى وصل إلى رتبة عميد.
أمضى العميد سيدو جُلَّ حياته في مدينة دمشق، وتنقَّل بين مدينة اللاذقية ومنطقة حوران في جنوب سوريا، حيث عُيِّن مديراً لمنطقة الصنمين ردحاً من الزمن، أُعيد بعد ذلك إلى دمشق، وعُيّن قائداً لشرطة العاصمة دمشق.
سمعت من بعض الجنود الكرد السوريين أنهم كانوا يقصدون العميد سيدو ديكو في مكتبه في دمشق حين كانوا يحتاجون مساعدة أو حين كانت تعترضهم مشكلة ما، ويتحدثون معه باللغة العربية، حين كان العميد يرى لغتهم العربية ضعيفة ومكسَّرة، كان يتحدث إليهم باللغة الكردية، ويطلب منهم أن يحدِّثوه بها. هذا هو أحد مواقفه المعروفة بين الكرد في منطقة عفرين. وهو الموقف الذي يدفعني إلى الترحُّم عليه: السلام لروحك يا حافظ الكلمة الكردية.
تعود معرفتي هذه الشخصية القيادية والمبدأية إلى عام 1996، حين كنت ضيفاً لديه في بيته ذات مرة. كان قد اشترى قطعة أرض خارج مدينة دمشق، شجَّرها كلها بالكرمة، وبنى له فيها داراً، يتقدَّمها حوض ماء لعله كان مسبحاً.
كانت اللغة الكردية وحدها هي المتداولة في بيت هذا الشهم، جميع أفراد الأسرة كانوا يتكلَّمونها، هو نفسه وزوجته و أبناؤه. زارني ضيفاً في ألمانيا مرتين، المرة الأولى كانت زوجته وابنه الدكتور أسعد برفقته، وفي المرة الثانية كان ولداه الدكتور أسعد والدكتور صلاح برفقته، ودائماً كانت الكردية لغة التخاطب والحديث بيننا.
كانت هذه الشخصية محبة للثقافة والفولكلور الكردي، وقد طلب مني ذات مرة أن أحدِّثه عن ملحمة “مَمي آلان”، فوعدته إن التقينا مرة أخرى أن أغني له بعض المقاطع من هذه الملحمة، وكنت قد حضَّرت نفسي أن أغني له أغنية “سيد خان” و أغنية “خروف ملا أوسب (يوسف) سيدو” و أغنية “سيد خان الأصم”. ولكن القدر وقف عائقاً، ولم يمنحني تلك الفرصة.
كان العميد سيدو كردياً وطنياً مخلصاً حتى الأعماق، طلبت منه الرئاسة السورية أكثر من مرة أن ينضم إلى حزب البعث، ستترفع رتبته العسكرية، ولكنه رفض ذلك بإباء. هذا الموقف جعل له مكانة بارزة وموضع فخار لدى الكرد.
تحية إلى إرادتك
بقيتَ كردياً، ولم تلوِّث اسم جدك سيدوديكو
حدَّثني المرحوم الشهم العميد سيدو عن بعض ما جرى معه، فقال ذات مرة: “في أيام رئاسة أمين الحافظ، حضرت اجتماعاً لأركان الجيش السوري في صالة كبيرة، وحضره جميع الضباط القادة السوريون أيضاً، رنَّ جرس الهاتف، ثم تقدَّم نحوي مَن رفع السماعة، وقال لي: إنه اتصال لك. فقمت إلى حيث الجهاز، وإذا المتحدَّث في الطرف الأخرة حماتي، وهي لا تعرف سوى اللغة الكردية، ولذلك تحدًّت إليها باللغة الكردية وجميع الحاضرين يسمعونني.
اندهش أغلبهم، فقط الرئيس أمين الحافظ، الذي كان قد خدم معلماً في قرية بادينا في منطقة جبل الكرد، كان قد سمع سابقاً وجود لغة كردية في سوريا، و بالنسبة لأغلب الحاضرين ربما كانت تلك المرة الأولى يسمعون فيها وجود قسم من الشعب السوري يتكلمون لغة أخرى غير اللغة العربية”.
وحدَّثني أيضاً: “حين يأتيني العرب، يدخلون بنعالهم، أما الكرد، فإنهم يخلعون نعالهم خارجاً ويدخلون بأدب واحترام. فكيف لا أحب وأقدِّر هذا الشعب؟!!”.
على روحك رحمة الله، ستبقى خالداً في ذاكرتنا.
من أين تنبع تربيته الكردية هذه؟ دعونا نبحث عن جذورها.
إنه سليل عائلة ديكو في جبل الكرد / منطقة عفرين. و وِفْقَ ما سمعنا، كان لجده سيدو ديكو خمسة أبناء ذكور، هم حسن وعارف و رشيد و حبش وسليمان. تماشياً مع عاداتنا نحن الكرد، فإن دار العائلة يبقى من نصيب أصغر الأبناء، ولهذا بقي سليمان، وهو أصغرهم، مقيماً في الدار، في حين استقلَّ كل واحد من إخوته الآخرين بدار له. ثمة سبعة أبناء ذكور لسليمان، هم سيدو (العميد ديكو) ودوغان وطاهر و فاروق و أحمد وبطال و جعفر. ما يُلفت الانتباه أن رجال هذه العائلة معروفون بالشجاعة والإقدام. ثمة في جبل الكرد أحاديث وأقوال إيجابية وجيدة تدور حول هذه العائلة. منها مثلاً:
1.يُقال حين احتلّ الفرنسيون سوريا، كان الكرد أول من تصدّى لهم، و يذكر التاريخ السوري أن أول رصاصة أُطلِقت على الفرنسيين كانت في جبل الكرد، من بندقية الكردي الشهم محو إبشاشو (إيبو شاشاو). كما أن عائلات روتو و إيمر وسيدو ديكو تصّدوا مع رجالهم للفرنسيين. و يُقال إن رجال سيدو ديكوا أسروا ضابطاً فرنسياً، أتوا به إليه، فقال له سيدو: ماذا تعملون في بلادنا يا هذا؟ عودوا إلى حيث أتيتم! قال له أحد رجاله: “يا آغا هذا فرنسي لا يفهم اللغة الكردية. فقال سيدو: ماذا؟! إنه بحجم حمار ومازال لا يعرف اللغة الكردية؟! خذوه جانباً، وأطلقوا على جبينه رصاصة، فقد قَدِم إلى بلادنا، عليه أن يتحدَّث بالكردية.
2. يُقال أيضاً، تقاتل أفراد هذه العائلة ذات مرة في ما بينهم، فأصابت رصاصة انطلقت من بندقية عارف امرأة من العائلة. خجل عارف وندم على ذلك، ولكن ما فائدة الخجل والندم، فقد وقعت الواقعة. توزَّع رجال العائلة بين حقول الكرمة و الغابات. حين انتهى خبر مقتل المرأة إلى مدير ناحية بلبل، ذهب إلى قرية قاسم، وسأل عن عارف، ولكن عارف لم يكن موجوداً في البيت، لذلك قال مدير الناحية: أخبروه أن يأتي إليَّ في الناحية. عند عودة عارف إلى البيت لم يجرأ أحد أن يخبره بقدوم مدير ناحية بلبل، وهو يريدك أن تذهب إليه. ولكنهم في النهاية اختاروا شخصاً تجاوز عمره الستين عاماً، و طلبوا منه أن يخبر عارف بما قاله مدير الناحية. وحين أخبره ذلك الشخص بأن مدير الناحية يريد أن تذهب إليه، أجابه عارف قائلاً:
هذا شأن داخلي بالنسبة للعائلة، نتقاتل ونتصالح أيضاً، مهمة مدير الناحية هي أن يسجِّل المواليد في السجلات، و يشطب أسماء المتوفين من السجلات. هذا هو عمله.
لامه والده سيدو كثيراً وبقسوة، فلم يتحمَّل عارف الملامة، وأطلق الرصاص من بندقيته على نفسه واضعاً حلاً لتلك المشكلة العائلية.
3. كانت هذه العائلة من كبار عشيرة آمْكا في جبل الكرد. أقامت ردحاً من الزمن في قرية ديكو، و ردحاً آخر في قرية بازيا. حينذاك كان رجل تركماني في تلك الأنحاء يمارس الظلم على عشيرة آمكا، هاجمه أحد قادة هذه العائلة وأجبره على مغادرة المنطقة.
هناك أحاديث مشابهة كثيرة تدور حول هذه العائلة. تُرى لِمَ كل ذلك؟
دعونا نبحث في جذور هذه العائلة. إنها إحدى كبار عائلات عشيرة آمكا، حين تسأل أحد أفرادها عن مصدر الاسم (ديكو)، يقول إن أصله من كلمة (ديك). يُقال إن أصل هذه العائلة ينحدر من منطقة سرحد في نواحي بيازيد في شمال كردستان. و وِفْقَ ما ذكره لي المرحوم العميد سيدو أن العائلة تعود في أصلها إلى منطقة بيازيد، وقال إن أصل الاسم من كلمة (ديك). ولكنني أعتقد أن ثمة مصدراً آخر لهذا الاسم، إذ من المعروف أن أسماء مستعارة غير أصلية تُتداول بيننا نحن الكرد. فمثلاً هناك أسماء عائلة كالي، عائلة كالو، عائلة جولاق، عائلة كَمِشي، عائلة إبشاشو، عائلة قنطارو، عائلة قرة حسن، عائلة خوجة، عائلة شورتازي،إلخ……..
هذه الأسماء المستعارة (غير أصلية) يُطلقها شخص أو أشخاص آخرون من غير أفراد العائلة، لسبب ما، على أحدٍ ما أو على عائلة ما، وعليه يمكن القول ربما أحدٌ ما أطلق الاسم (ديكو) على هذه العائلة.
دعونا الآن أن نبحث في هذا الاسم (ديكو) لغوياً. عندئذ سنجد لهذه الكلمة ثلاثة معانٍ متقاربة:
الأول: في حراثة الأرض إما تُغمَر سكة المحراث عميقاً، و يُقال لهذه الحالة في اللغة الكردية (ديكَةْ)، أو لا تُغرز عميقاً، ويُقال لهذه الحالة في اللغة الكردية (سُوَةْ). هنا كلمة (ديكَةْ) تعني عميق.
الثاني: حين نمشي في مرتَفع من الأرض، هذا المرتَفع قد يكون حاداً، يُعَبَّر عنه في الكردية ب(ديكَةْ) وقد يكون غير حاد.
الثالث: في الكردية تُطلق صفة (ديكَةُ) على الشخص الشجاع، فيُقال: إنه شخص ديكَةْ. فهذا الاسم يغدو هنا صفة تعني شجاع أو غير هيَّاب.
من الممكن أن هذا الاسم أُطلِق بداية بلفظ (ديكَةْ) على هذه العائلة حسب المعنى الثالث، ثم حُرِّف إلى (ديكي) بإمالة الياء، لأن الكلمة الثانية في اللغة الكردية بصورة عامة تخضع للإمالة، فصارت تُلفَظ (ديكي) بدلاً عن (ديكّةْ).
ذهاباً وإياباً
ذهاباً يا بطلنا، بطل الكرد.
لم يكن يكفي احتلال جبل الكرد،
تراب عفريننا الجميلة.
أُضيف إليه هذا المُدَّمر، الزلزال اللعين.
أرض الزيتون، أرض الكرمة والفاكهة
ذهبٌ، ذهبٌ.
مباركَةٌ وقيِّمة
ألماسٌ وذهبٌ أصفر
تقشعِرُّ اليوم تحت ظلم المحتلين
والعالم من حولنا أصمُّ وأعمى
في قرية قاسم
تحت أشجار الصنوبر وضعتَ رأسك
جميع أهل جبل الكرد
حزانى من بعدك … في رحيلك.