إبراهيم محمود
هي أيام معدودات، ويكون قد مر عام على رحيل كاتبنا محمد سيد حسين، الكبير شأناً ، لمن يعرفه عن قرب اجتماعي، والجليّ قدْراً لمن يعرفه عن قرْب ثقافي.وفي اعتقادي أن لا أحد يمكنه تصريف هذا العام، ذي الصلة بالولادة الثانية لحياته، إلا من يعيش الثقافة كما هي في نسَبها الحياتي العميق العميق، في حلوها ومرّها بعيداً عن الصخب الإعلامي المدوِخ، والتداول المحسوبياتي المعْدي، وما لهذين العنصرين من حضور مريع وفظيع في أوساطنا الكردية المسماة بالثقافية.
لهذا، لهذا، كان هذا العنوان، وليس فيه ما أعتبره مجاملة لمن كان رحيله الأبدي، ولمن هو المعني به: عائلة بكل أفرادها، وأهلاً وأقارب. فثمة تاريخ، وهو بمقدار ما يمضي بنا إلى ما كان في رحابة فعله، يمضي بنا إلى ما سيكون في كبير مجهوله.
ما كان محمد سيد حسين عالماً، ولا كان موظفاً براتب جرّاء تعليم جامعي معين، وإنما كان واقعاً:خرّيج حياة عاشها، أعطته فأعطاها، وهو خريج علاقات ما أبعدها عن الحياة التي تسمّي الكثيرين، في مفهومها القطيعي، وميتاتها ذات العلاقة بما يجري في حياة لها مسار آخر.
عام مسمَّى، في ولادة أخرى، تأخذ جانباً حياً من لونها، من طعمها، من رائحتها، من مذاقها الروحي،ومن صوتها المختلف، مما كان عليه محمد سيد حسين، الأخ الكبير، والصديق القدير، والإنسان المأهول بحياة، لا بد أن الذين عايشوها قريباً منه ومن ألسنة شتى في مجتمعه، يعرفون حقيقتها، وما لها من قيمة واعتبار.
أقولها، بطريقة أخرى، وأخرى بعد هذه، أتحدث عن هذه الولادة الثانية، وهي التي تقيم فصلاً بين حياة معتادة لأي كان، وحياة مرتادة لمن لا يكون كأي كان، وإنما ما يجعله اسماً لا يقلّد سواه، إنما هو صنيع نفسه، والأيام، وهي لا تحسَب بالسنوات المعدودات أحياناً، هي الكفيلة بإبراز معدنا الأصلي من المزيف والتقليدي.
في الولادة الثانية، لا يعود العمر الزمني مهماً، إنما ما يعطي العمر نفسه تلك القيمة التي تحدد لها حجماً، ومساحة، وعمق دلالات، عند النظر في الذي خلَّفه الراحل، وليس من جهة أي كان، هو عمر يمتد إلى المستقبل، بمقياس هندسي، كما هو معروف، من أهل الثقافة الحقيقية والفاعلة.
أتحدث هنا عن الكلمة التي تعرّف بنفسها لأنها تحمل ذاكرة مجتمع كامل، بماضيه الجريح والمكافح، ومستقبله المنشود وهي بذلك تكون قد أمَّنت على حياة كاتبها، أعني بها: منحته شرف الاستمرار في تاريخ آخر، لن يكون في مقدور أي كان، الشعور بفحوى قول كهذا، وهو مغمور بسقْط المتداول في الحياة، أو تكتلاتها.
الولادة الثانية أبعد ما تكون بالأرقام، إنما هي بالشواهد الفعلية، بالأثر الحي الذي لا يخفى، وهو ما تتكفل به، كتبه التي تتكلم شعراً ونثراً على طريقته، ما تتكلمه كتاباته الجامعة على طريقتها بين حيوات شتى المقبِل على الحياة دون قناع، والمعزّز بالحياة بعيداً عن المجاملات، والمرئي بداخله كثيراً على وقع المسطور بلغته الأم طبعاً، في مساراته الشعرية: أنغام الحب، نخوة قامشلو، كردستان قصيدتي، الوطن جنَّتي…إلخ، وفي مداراتها البحثية والفكرية والتاريخية: اللغة والشهرة.. صدى الحقيقة.. نشاط الشعر والتذكير ببنية اللغة،لوحة التاريخ وتذكارات القصة، وذكرياتي أنا وفرهاد عجمو…إلخ، وما يخص الجانب الروائي” سحابة الموت “، والفولكلوري، كتاب معمَّر بالأقوال المأثورة وغيرها…إلخ.
في العناوين المقدَّمة هذه، وهي تشكل مجتمعها الأدبي والفكري، الشعري والنثري، الجمالي والفني عموماً، بعيداً عن معظم ما هو متبوع تقليدياً في الكتابة، ثمة ظل مسمَّى وهو وارف، يسمّي المعرَّف به دون سواه أصالى: محمد سيد حسين.
أتحدث ثانية، وأنا أشير إلى التالي على ” معدود من الأيام ” أي ” 12-2-2023 “وأنا أشير إلى جهات مفتوحة للمحتفى به كسواه، إنما المرتقى به أديباً على طريقته، وناقد مجتمع ، أستطيع القول أن هناك كثيرين لا يملكون جرأة ما سطَّره هذا الذي عانى الكثير جرّاء أوجاع مرض الأعصاب المحيطية، فكان ضحية هذا الألم العميق الأثر وسواه، وفي الوقت نفسه، رحل ، وهو مسكون بسؤال الثقافة: ثقافة عامة، وثقافة لغته الكردية ومجتمعه الكردي، ومستجدات شعبه الكردي، وتقلبات المطروحين في الساحة الكردية بوصفهم رموز فكرها وأدبها وحقيقة ذلك، وبالطريقة هذه، إذا كان قد حمّل على نعش، سوى أنه كان واقفاً بما خلَّفه نفيساً.
في قادم الأيام ستكون هناك أيام أخرى، بمعان أخرى، بإقبالات أخرى على ما كتبه المحرَّر من التقليد والشعاراتية المعتادة كردياً، وممن يحاول أن يكون سليل ثقافة تحمل بصمته، وليس بالوكالة السياسية أو التحزبية، أو الوجاهاتية هذه الآفاتية التي تتلبس الكثيرين ممن يقولون ما يرونه مطلوباً من خارجاً، وليس محسوباً في داخلهم طبعاً، وهي العلامة الفارقة والشاهدة الحية على مدى تضعضع الكرد إجمالاً.
أتحدث عنه، وقد نشرت كتاباً عنه قبل سنة” النجم الذي يتدفق ضوءاً ” وها هو ذا يحضر في كتاب آخر، وبلغته الأم، كما كان يحب ذلك، وبعنوان مختلف، حباً بالاختلاف المحفّز: استندت إلى الحياة، فاحتضنتني: حياة محمد سيد حسين وأعماله ” دراسة ومختارات “
Min xwe spart jiyanê, ez himêz kirim: Jînegeriya niviskar Mihemedê Seyid Husên û berhemên wî” Vekolîn û hilbijartî”
رغبة في محاولة الإحاطة بأعماله النثرية والشعرية، لمن لديه رغبة بالتأكيد، تعبيراً عن هذا التوق إلى الكشف عما يعرَف به، وحين يقرَأ لن يكون أمام ناظريْ قارئه سواه، لأن أسلوبه هو الذي يمضي به من ألف حديثه إلى يائه طبعاً.
نعم، أتحدث عنه، بالطريقة التي عرفته بها، وكما هو في الكثير مما أسلس لحصانه الأدبي والفكري القياد، وكان فارسه الكردي، المقدّر لهذا النوع من ” الأحصنة ” حصانه الذي لا يهرم، لأن الذي انشغل به، وهو في وضعه الحياتي، ووسط أفراد عائلته، ومحبيه الفعليين، كان يتنفس مأخوذاً بالمزيد من الوعد مع القول المختلف، والمزيد مما كان يراه جديراً بتسميته، ولو أنه كان حياً، ومن خلال المستجدات العاصفة، لكان هناك أكثر من هذا المسمى بين دفتي كتبه، ولكن الذي تركه خلفه، يعلِمنا بما نجرؤ على قوله، وهو أن حياته الأخرى، هذه التي تأتي بعد الرحيل الأبدي، تشير إلى طريق طويل، وواسع، وممهَّد بإتقان، ويمتد إلى الأبعد من المرئي في أفق المستقبل.
تحية إلى روح محمد سيد حسين، في إبداعه، تحية إلى اسم محمد سيد حسين، الذي ضمِن حياة ترتقي به عالياً عالياً، كما يستحق.
سلاماً إلى روحه وهي في شفافية مأثوراتها الإنسانية والكردية معْلماً.
سلاماً إلى عائلته: رفيقة دربه التي لها بصمة معتبرة في حياته بالتأكيد.
سلاماً إلى أفراد عائلته واحداً تلو الآخر، بالجمع والمفرد، لأنهم يعيشون روعة هذه الحياة، ولهذا يظهرون تقديرهم المقدَّر لها.
سلاماً إلى أهله، أقربائه، أحبَّته، ومعارفه، ممن يحملون في صميم روحهم ذلك التقدير المستحق لهذا الذي تحتضنه ذاكرة بحجم الوطن والإنسانية الفعليين كثيراً !