لوحة آناهيتا «قصة قصيرة»

ماهين شيخاني

لدى دخولها الدار بعد طول غياب، كانت في السنة الرابعة من عمرها حينما غادرته إلا أنها كانت تتذكر كحلم عن هذا المنزل الذي ولدت فيها من خلال أحاديث إخوتها وأمها أو من خلال ألبوم الصور التي كانت تحتفظ بها لدى مرافقتها لوالدتها بذاك القرار الفظ من المحكمة لحضانتها . 
وقفت آناهيتا بحيرة وارتباك أمام الباب، تواردت الذكريات كجدول ماء لتصب في بحر حزنها وفقدانها بل حرمانها من الأبوة رغماً عنها، استدارت نحو أحدى أركان الباحة  لتتذكر دراجتها الصغيرة عندما كان يساعدها أخوها الذي يكبرها بسنتين على الدفع، ثم خطت بضع خطوات لتقترب من ذاك السرير الحديدي ولمسته بحنية وقالت : لقد نمت هنا على هذا السرير، أليس كذلك  ؟. ورفعت رأسها باستحياء باد على محياها لتنظر إلى تلك الواقفة بجانبه، ثم انتقلت بنظراتها إليه بصمت لتسأله : هل هذه هي التي أخذت مكان والدتي ؟. 
 أحس بها وشعر بألم شديد يعصف بقلبه، رفعها إلى حضنه وقبلها بشغف، إنها لا تدرك شيئاً، ولا تعرف الحقيقة، من هو الظالم ومن المظلوم، تمنَّى في تلك اللحظة لو باستطاعته مصارحتها بالذي حصل مع أمها اللجاجة كي لا تتهمه تلك العينين الجميلتين وتضعه في قفص الاتهام .
 لم يخطر في يوم من الأيام ولم يتبادر إلى ذهنه للحظة أن يفكر بالزواج مرة ثانية حتى وإن ترمل لا سمح الله، كان يعتبر مجرد التفكير بهذا أمر خيانة، همه الوحيد أن يربي أسرته خير تربية مبنية على أساس الصدق والاحترام وفعل الخير، أن يبني مستقبلهم بالتعليم، ويكملون دراساتهم في أحسن الجامعات، إلا أن العناد وسيطرة المادة على عقل ونفس أمهم حرمتهم من العيش تحت سقف واحد تجمعهم . خطى بها نحو الداخل وقال : أحزري ماذا اشتريت لك  ؟.
 – أعرف ماذا اشتريت، أكيد علبة ألوان ودفتر رسم، مثلما كنت تفعل في السابق  أليس كذلك ؟؟.واستأنفت بالحديث قائلة : بابا …؟. 
 الجميع يقولون لي إنكِ ورثت هواية الرسم من والدكِ ؟.  صحيح من أين تعلمت الرسم ..؟. هل ورثتها عن جدي.. ؟.
 – ابتسم ..؟ 
لا يا ابنتي جدك لا يجيد الرسم والألوان، جدك همه الوحيد هو جمع المال كوالدتك تماماً، هما يشتركان بهذا الشيء، أما الرسم هي شغف وهواية، أنا وأنتِ فقط نشترك بها .
 – بابا…؟. كنت في السابق تختار لي مواضيع، هل هناك موضوع اخترته لي، كي أرسمه..؟. 
– بالتأكيد يا بنيتي… أنه مشروع عمري …؟.
  انتظرته منذ سنين ..؟.
 – إذاً قل لي ماذا أحضرت ..؟.
 – هل ترين هذا البيت . – نعم .
 – ستختارين أحدى الغرف في المنزل وتتخيلين بالرسم كل ما تطلبينه وما تحتاجينه ..؟. لأنها ستكون غرفتك الخاصة من الآن وصاعداً …؟.
 – حاضر يا أبي سأرسم كل ما أحتاجه .
 في الصباح الباكر، دخل الأب إلى غرفتها وهي نائمة، كانت الألوان والأقلام مبعثرة على الطاولة، ودفتر الرسم في حضنها، سحب الدفتر بهدوء وحذر وتمتم مبتسماً: يبدوا أنها سهرت طويلاً على رسم طلباتها، عندما رفع الغلاف وشاهد لوحتها، سالت دموع من عينيه وخلف حجاب الدمع رأى صورة مرسومة لوالدتها .. 
– انتهت –

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…